كُتاب الرأي

من عزلة الجسد إلى وحشة الروح

من عزلة الجسد إلى وحشة الروح

 

د. سارة الأزوري

قراءة في قصيدة «شهيق وزفير» لفهد العسكر

فهد بن صالح العسكر شاعر كويتي (1917–1951) كان ضحية لأفكاره التحررية المتمرّدة على القيود الاجتماعية والدينية، مما أدى إلى قسوة أسرته ومجتمعه عليه، فكان النبذ والعزلة مصيره حتى مات وحيدًا بمرض السلّ.

قصيدته «شهيق وزفير» ليست مجرد وصف لحركة بيولوجية، بل تجسيد لشعور بالاختناق. أراد بها أن يذكّر نفسه بأبسط حركة جسدية، مستحضرًا ثنائية الدخول والخروج، الأخذ والعطاء، الألم والراحة. فشهيقه اكتظاظ باللوم والاتهامات، وزفيره شعر يحاول من خلاله أن يطرح عن صدره عبئًا يثقل كاهله.
من العنوان يتبدّى الصراع الداخلي، كأن الشاعر يدخل معركة وجودية يصبح فيها كل شهيق محاولة للبقاء، وكل زفير اعترافًا بالألم.

يفتتح الشاعر قصيدته بفعل أمر مباشر: «كفّي الملام وعلّليني». في صيغة الأمر حدّة وضيق وزجر من اللوم الذي يضاعف خنقه. لكنه لا يتركها قاسية تمامًا، بل يوازنها بـ «علّليني»، أي التمسي لي العذر وامنحيني سببًا يسكّن ما يعانيه. هذا الانتقال يحوّل الخطاب من لومٍ يمزّق الفؤاد إلى مواساة تفتح نافذة للرحمة، وكأن القسوة لا تُعالج إلا بالحنوّ.

ثم تتصاعد الصورة حين يحوّل الشجون إلى وحوش تنهش كبده. فاختياره للكبد مقصود، لأنه رمز العاطفة الخالصة والحنوّ، كما في القول: «أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض». وهنا يرسم صورة افتراس للأمل الحيّ، لينتهي بسؤال يائس ليس انتظارًا لجواب، بل صرخة مضمخة بالخذلان. يعلن وجعه في مواجهة كل الجبهات بلا سند، فيصرخ في فراغ لا يسمعه أحد.

ومن هذه الصرخة تتسع رقعة الألم: المرض لم يعد عارضًا جسديًا، بل مرضًا وجوديًا ينخر عمق الذات. فالألم الداخلي يوجع، والخارجي يذكّره بالعجز، فالتجربة هنامضاعفة. جسد يذبل وروح لا تجد مأمنًا، والأسوأ أنه يُعاتَب على علّته كأنها ذنب. ومن هنا يتحوّل الاغتراب إلى عذاب مركّب: جسد لا يطيق وروح بلا سند.

ولتثبيت هويته المرفوضة، يكرّر تعريفه بنفسه: «أنا شاعر، أنا بائس، أنا مستهام». ليست مجرد كلمات وصفية، بل محاولة يائسة لإثبات وجود مهدّد بالإنكار. لكنه يعود ليعترف بالهزيمة، إذ الكثرة تغلب الشجاعة، لأنه وحيد في مواجهة جموع متكاثرة. فهذا الانكسار يكشف مفارقة مرّة: الشعر الذي كان يراه مجدًا ورفعة صار لعنة جرّت عليه البؤس والخذلان.

ثم يضيف إلى غربته الجسدية غربة مكانية: جسد ذابل ووطن قاسٍ. فلا جسد يمده بالقوة، ولا وطن يمنحه الأمان والدفء. فالوطن الذي كان في عمقه حنينًا صار مصدرًا للخذلان. والمجتمع لم يكتفِ بتركه، بل جعل من مأساته مادة للتشفي. فبدلاً من أن يكون قاضيًا عادلًا، نصب نفسه جلادًا، ورماه بالشذوذ والجنون، وتلذذ بعذابه.كأن أمراض الجماعة انعكست فيه، فصار المرآة التي تكشف عيوبهم.

تتتابع الاتهامات من شذوذ وجنون إلى خلاعة ومجون، لكن أخطرها على الإطلاق: وصمه بالكفر. هنا يبرز الخصم الحقيقي وهم: المتعصبون الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على العقيدة. فيردّ معتصمًا بكرامته وشرفه، جاعلًا الله شاهدًا على صدقه، مؤمنًا بذاته وربه لا بأحكامهم. رافضًا الذلّ، مستعيدًا كبرياءه، مقتبسًا من سورة الكافرون: «لكم دينكم ولي ديني». فينزع سلاح التكفير من أيديهم، ويوجّهه إليهم ليكشف به زيغهم وضلالهم.

وبعد صراع مرير مع المجتمع، يلتفت إلى ليلى. هذا الالتفات ليس مجرد استدعاء للحبيبة، بل عالم بديل. يجد فيه مسكّنًا يخفّف ألمه. وكأنه يقيم على أنقاض القسوة حياة حالمة مشيدة على العهد والعذوبة.. وهنا خلق توازن بين مجتمع قاسٍ يجرّده من إنسانيته، وحلم عاطفي يعيد إليه بعض الكرامة والدفء.

ثم يصر لعودة ليلى ويكرر النداء بإلحاح لأنها ليست امرأة فقط، وليست مجرد صورة عابرة في خيال شاعر، بل حضور يختزل معنى الخلاص. لكن هذه المناشدة تكشف في الوقت نفسه هشاشته، إذ يصبح خلاصه مرهونًا بها. فالعتاب منها ليس مجرد كلمات، بل إعلان موت بطيء لأنه يوقظه من خدره الدافيء. ايضا هو محتاج إليها كسبب للبقاء، لكن خوفه أن ينقلب هذا الاحتياج إلى خضوع يجعله أسيرًا لحبّ قد يخلّصه، وقد يذلّه.

وحين يقول: «حفّت بي الأشباح، بربّك أنقذيني»، فهو لا يطلب حضورًا جسديًا، بل إنقاذًا وجوديًا من رعب داخلي. وعبارة «ابعثي ميت اليقين» تختصر المأساة: يقينه مات، وليلى وحدها قادرة على بعثه. أما قبلة الوداع على الجبين فهي طقس رمزي يثبت أن الحب صار مرجعية بديلة بعد سقوط كل المرجعيات الأخرى: الأسرة، المجتمع، والعقيدة كما يفسرها المتعصبون.

وفي النهاية، بعدما تخلى عنه الجميع، يطلب من ليلى وفاءً أخيرًا: أن تبكي على قبره. فدموعها التي تبلله ليست مجرد حزن، بل اعتراف بوجوده، وجسر يصل حياته بمماته. هنا تتحوّل من حبيبة عاطفية إلى شهادة للخلود. وحين يقول: «ببنات فكري شيّعيني» يعلن أن شعره هو الميراث الباقي. فالجسد سيفنى، لكن الكلمة تبقى. وما هذه القراءة نفسها إلا برهان أن إرثه لم يُدفن، بل خرج من قبره يتنفس معنا شهيقًا وزفيرًا.

وهكذا تتجاوز «شهيق وزفير» مأساة فردية لتصير صورة رمزية لزمن بأكمله: زمن يُسحق فيه الفرد المختلف بين مطرقة المجتمع بعاداته وتقاليده وسندان حاجته إلى الاعتراف والحب.

وختاما: افتتحت القصيدة بأنفاس ضيقة محاصَرة، وأغلقت أبوابها بوهج الشعر ونبض الحب، ذلك الوهج الذي رفع الشاعر إلى خلود رمزي يعلو على الفناء.

كاتبة رأي

 

الدكتورة سارة الأزوري

أديبة وشاعرة وقاصة وكاتبة رأي سعودية

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى