نصف الطريق أم نصف الحقيقة؟
نصف الطريق أم نصف الحقيقة؟
محمد الفريدي
كل مسيرة لها لحظة فاصلة؛ لحظة تشبه المرآة التي تعكس ما مضى وتكشف ما لم يكتمل.لحظة تُلزمك بأن تسأل: ماذا فعلنا؟ وأين أخفقنا؟ وإلى أين نمضي؟
نحن اليوم نقف في منتصف الطريق الثقافي، في قلب مشروع رؤية 2030؛ حيث نرفع شعاراتنا، ونضيء مسارحنا، وتُقص أشرطة مشاريعنا، وتُعقد ورشنا، وتُقام محاضراتنا. لكن السؤال الملحّ: هل غيّر كل ذلك من واقع الثقافة في حياتنا شيئا؟ أم أننا نغرق في مظاهر تخدعنا ولا تصنع الجوهر؟
قبل سنوات قليلة، كانت الثقافة في السعودية على الهامش: بلا صوت، وبلا مؤسسات ترعاها؛ مجرد اجتهادات فردية، ومهرجانات صغيرة لا تُذكر، وأمسيات متفرقة، وشعراء يقاتلون في الظل. ثم جاءت الرؤية، ومعها وُلدت الهيئات، وبدأت المهرجانات، وأصبحنا نرى صورا براقة، ومؤتمرات ضخمة، وفعاليات تصدح في كل مكان.
ولا أحد ينكر أن هذا التحوّل الحقيقي نحبه، لكنه لا يعني بالضرورة أننا أنجزنا؛ فالإنجاز الحقيقي يُقاس بمدى وصول الثقافة إلى القرى البعيدة، وشعور شاب في أقاصي جازان، مثلا، أن قصيدته الأولى ليست صرخة في فراغ، بل لبنة في بناء وطني متماسك.
وحين تصل الثقافة لكل بيوتنا، وتمنح شبابنا فرصة التعبير، عندها فقط نستطيع القول: لقد أنجزنا. فنحن نصنع واجهة ثقافية أنيقة، لكن داخلنا ما زال هشّا، والفعاليات الكبرى محصورة في مدينتين، وكأن بقية الوطن مجرد أطراف زائدة لا تستحق الفعاليات أو الأضواء.
نجران بجمال صوتها الأصيل، وجازان بشعرائها الجهابذة، والباحة بحكاياتها الجميلة، وتبوك بتاريخها العريق، كلها تُترك لتتفرج على الاحتفالات والفعاليات من خلف الشاشات.
فهل هذه هي العدالة الثقافية؟ أم أن الثقافة صارت امتيازا لمن يملك الجغرافيا الأقرب إلى العاصمة؟
الدعم المالي يُعلن بالملايين، لكن السؤال: من يستفيد فعليا من هذا الدعم؟ هل هو الشاعر الشاب الذي يغرد في واد بعيد ولا أحد يسمع صوته؟ أم الفنانة التشكيلية التي تحاول شراء أول أدواتها ولا تملك قوت يومها؟ أم أن الدعم يذهب في دوائر ضيقة، محصورة في من يعرفون الأبواب الخلفية إلى المكاتب الفخمة؟
الموهبة في هذا الوطن ليست حكرا على العاصمة، والبيروقراطية تُصرّ على أن تجعلها كذلك.
ثم نأتي إلى التراث. نعم، التراث جميل وعميق ومهم، ولكن هل يعقل أن نكتفي بتراثنا ونعلّقه كقيد يمنعنا من القفز إلى الأمام؟
التراث مصدر إلهام، لكنه ليس سقفا، ولا جدارا نقيمه لنحبس أنفسنا داخله.
ما نحتاجه ليس فقط الاحتفال بالماضي، بل صناعة المستقبل، وصناعة المعرفة، وصناعة الفكر، وصناعة التراث أيضا.
أين صناعة الفكر؟ أين إعادة الاعتبار للغة العربية كمنبع إبداع، لا كمنهج دراسي جاف؟ أين الاستثمار في الفلسفة؟ وفي النقد؟ وفي علم الاجتماع والنفس؟
كل هذا يصمت أمام تساؤلنا، وكأننا نخشى أن نفتح الباب لعقول تُفكر أكثر مما يُسمح لها. فإذا أردنا أن نرتقي حقا، فعلينا أن نحول تراثنا من ذكرى قديمة إلى منصة انطلاق، ومن جدار عتيق إلى جسر جديد يصل بين ماضينا ومستقبلنا.
أما التعليم، فالقضية أعمق. كل عام يتخرج المئات في تخصصات الثقافة واللغة والنقد والفلسفة. لكنهم يصطدمون بواقع مظلم: لا برامج تحتضنهم، ولا إدارات ترعاهم، ولا فرص عمل تليق بهم.كأننا أعددناهم للبطالة لا للإبداع.
///
فإذا لم تحتضن وزارة الثقافة هذه العقول، فمن يحتضنهم؟ كيف نزعم أننا نبني مشهدا ثقافيا جديدا ونحن نهدر مواردنا البشرية في الطرقات بلا قيمة ؟ الثقافة ليست زينة لمهرجانات مؤقتة، بل عقول تبني وتكتب وتفكر.
إذا أردنا لمشهدنا الثقافي أن يكون حقيقيا ومستداما، فعلينا أولا أن نستثمر في الإنسان قبل المكان، وأن نحتضن العقول قبل أن تضيع، فكل فكرة وعقل يضيع منا خسارة لوطن بأكمله.
ولن أتحدث طويلا عن المشاريع التي تبدأ بضجة ثم تختفي، والمتاحف التي تُفتتح وتُنسى، والمبادرات التي تُعلن وتذوب، والمرافق التي تُشيَّد ثم تُهمل.
نحن بارعون في صناعة البدايات، لكننا فاشلون في صناعة الاستدامة. والثقافة لا تُبنى على القص والقصاصات، بل على المتابعة، وعلى التخطيط بعيد المدى، وعلى قياس الأثر الحقيقي. وما لم تصبح الثقافة جزءا من حياتنا اليومية، فلن تتجاوز صورا في أرشيف الصحف أو بوستات في وسائل التواصل.
المؤلم أن أكثر الشراكات المجتمعية مُغيَّبة عمدا أو سهوا، والثقافة الحقيقية تبدأ من الناس، من القرى، من الحارات، ومن المبادرات الصغيرة التي تنبت كالعشب الطبيعي في كل مكان. لكن بعض مؤسساتنا الرسمية لا تزال تتعامل مع هذه الجهود بشيء من التجاهل أو التعالي، أو تحاول ابتلاعها وصهرها في بيروقراطيتنا الثقيلة. والنتيجة: مشهد رسمي مصطنع، بلا جذور، وبلا روح، وبلا حياة.
ثم كيف نقيس النجاح الثقافي؟ هل بالأرقام التي تُعلَن بفخر عن عدد الفعاليات؟ أم بعدد الحضور؟ إذا كان المعيار هو المقاعد الممتلئة والكاميرات المصوَّبة، فهذا معيار أجوف.
النجاح الحقيقي يُقاس بتغيّر الوعي بالفعل، بازدياد معدلات القراءة، باتساع حب الكتاب، وارتفاع منسوب النقاشات الفكرية. يُقاس النجاح الحقيقي حين تدخل الثقافة كل بيت، لا حين تُحصر في منصات محدودة.
لا نحتاج كلاما منمّقا، ولا كثرة فعاليات، ولا الاكتفاء بالاحتفال بالتراث، ولا البيروقراطية الرقمية الجديدة، ولا الافتتاحات الصاخبة، ولا المركزية الخانقة.
ما نحتاجه حقا هو الإرادة الصادقة، والعدالة في التوزيع، وصناعة وعي جديد، والجرأة في القرارات، والاستدامة الهادئة، والانفتاح على كل الوطن ليشمل جميع مجتمعاته، ويصل إلى كل مواطن، لتصبح الثقافة جزءا حيّا من حياتنا اليومية.
الثقافة ليست مهرجانا، ولا مؤتمرا، ولا صورة على غلاف مجلة. الثقافة هي الحياة.
هي القصيدة التي تُكتب في قرية نائية في الشمال، فيصل صداها إلى أطراف العالم، وهي اللوحة التي تُرسم على جدار في أبها فتصل إلى كل العواصم، وهي حكاياتنا الشعبية التي تُروى لأطفال أوروبا بلغات مختلفة، فيدمنون سماعها.
وهي الشاب الذي يكتب روايته الأولى في جازان، فيقرأها شباب الدول الأخرى، وهي الفتاة التي تدون مذكراتها للمرة الأولى في الجوف، فينبهر بها العالم.
الثقافة، إذا لم تصل إلى كل هؤلاء، فهي لم تبدأ بعد، ولن تكتمل إلا حين تُلامس العقول في كل مكان، وتغذي الأرواح، وتفتح الأبواب أمام الإبداع، وتحوّل حياة الناس إلى تجربة معرفية وفنية مستمرة، وتُلهم كل من يطّلع عليها، وتترك أثرها في كل زمان ومكان.
لهذا أقولها بوضوح: نحن في منتصف الطريق، نعم، لكننا أيضًا في منتصف الحقيقة. لدينا مظاهر جذابة، لكن الجوهر ناقص، لدينا أرقام كثيرة، لكن الأثر غائب، لدينا فعاليات لا تُعد ولا تُحصى، لكننا نفتقد الحياة الثقافية اليومية الحقيقية. الوقت لم ينته بعد، لكنه يمضي بسرعة.
السؤال الذي يجب أن يُطرح بلا تردد هو: هل ستتحول ثقافتنا إلى حياة نعيشها فعلا؟ أم ستبقى مجرد عروض مسرحية كبيرة تُقام في العاصمة؟ هل سنبني وعيًا جديدا لأجيالنا القادمة؟ أم سنكتفي بالتصفيق لفعاليات موسمية كل عام والسلام؟
إذا لم نجب اليوم، فسيأتي الغد ومعه الإجابة الأشد مرارة، ولن نجد مبررا لسكوتنا حين تتحول ثقافتنا إلى صدى بلا روح، وذكريات بلا أثر.
المرارة الحقيقية لن تكون في إدراك ما ضاع منا، بل في إدراك أننا كنا قادرين على أن نفعل ولم نفعل.
أننا امتلكنا الموارد والفرص والكوادر، ثم فرّطنا فيها تحت عبارات براقة لم تلامس واقعنا.
الغد لن يرحم عجزنا، ولن يغفر تضييعنا لنصف طريقنا الباقي، لأن ثقافتنا إذا لم تُبنَ اليوم بصدق، فلن تُبنى غدا مهما أنفقنا عليها من أموال وصخب إعلامي.
فهي لن تحل محل العمل الحقيقي المؤثر في حياة الناس.
إن أخطر ما يواجه ثقافتنا اليوم هو هذا التناقض الصارخ بين المظهر والجوهر:
صورة تُظهر للعالم أننا في أوج انفتاحنا الثقافي، بينما الجوهر في كثير من المناطق لا يزال يعيش التهميش والعزلة والانطواء.
وثقافتنا ليست مشهدا وثائقيا يُعرض على شاشات العالم بلا معنى، بل هي ممارسة يومية تُحيا في كل بيت من بيوتنا، وفي كل مدرسة من مدارسنا، وفي كل قرية من قرانا.
فإذا لم تصل إلى الطفل في الفصل، وإلى الشاب في المقهى، وإلى المرأة في قريتها، فهي لن تصل مهما تضاعفت فعالياتنا ومهرجاناتنا.
نحن بحاجة إلى صدمة قوية وقرار حكومي يقطع ثقافة الاستعراض ويفتح الباب لثقافة الحياة. بحاجة إلى أن نتوقف عن المجاملات، وأن نسمّي الأشياء بأسمائها. فاحتكار الحراك الثقافي قتل الإبداع والتنوع فينا، والبيروقراطية الرقمية البطيئة قتلت أفكارنا وخطواتنا وأنشطتنا الثقافية. وانشغلنا بالتقاط الصور التذكارية أكثر من انشغالنا بالعمق الثقافي، وتركنا جوهر ثقافتنا الأصيل، كعادتنا، على جنب.
المستقبل لن ينتظرنا، والأجيال الجديدة لن تنتظر موافقة خطية منا أو خطابات شكر. ستبحث عن منصات تتيح لها أن تكتب، وأن تغني، وأن ترسم، وأن تفكر بلا قيود ولا حدود. وإذا لم نمنحها هذه المساحة الآن، فستصنعها بنفسها خارج مؤسساتنا الفكرية والثقافية غدا، وستتجاوزنا كما تجاوزت أجيال سابقة منصاتنا العاجزة عن مواكبتها.
لهذا، يبقى الخيار أمامنا واضحا: إما أن تتحول ثقافتنا إلى مشروع وطني حيّ يدخل في كل تفاصيل حياتنا، أو تبقى مشروعا رسميا مُعلّبا، محصورا في المدن الرئيسية المهيمنة، بلا أثر ولا روح. وتُسجّل كتب التاريخ أننا كنا نملك الفرصة الذهبية، فضيّعناها بتقصيرنا.
وإن لم نبدأ اليوم باستثمار العقول وإتاحة الفرص للمواهب في كل مناطق الوطن، فسنظل عالقين في المظهر، عاجزين عن صناعة الجوهر. والحل يبدأ بالإنصاف، بالاستدامة، وبجعل ثقافتنا الحقيقية حاضرة في كل بيت وفي كل قرية.
كاتب راي


