كُتاب الرأي

المغادرون

 

قال بعض الحكماء : لا تكثروا من الأصحاب فإن الفراق جحيم !
وفي هذا المعنى يصعب على الناس حقيقة فراق الأقارب والأرحام والأصهار والأحباب ؛ بل وفراق المنزل المبارك الذي درجوا فيه ، والسماء التي ألفوها ، والشوارع التي عهدوا المرور بها ، والأماكن التي تحمل لهم الذكريات الجميلة الهادئة وحتى المحزنة والمؤلمة منها .

الفراق والفرقة صعبة ، وجزء من العذاب إن لم تكن هي العذاب بعينه !! فالحرمان من المحبوبات والمرغوبات والمكان والزمان يعد نوعاً من العقوبة القاسية ؛ حتى يعتدل الناس ويحسنوا السلوك لأجلها ! ولذا كان من الشريعة التغريب عام ، والنفي من الأرض ، وهو يعدل الصلب مع القتل والتنكيل بالذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

إن مغادرة أبونا آدم عليه السلام وأمنا حواء عليها السلام الجنة أورث توبة وإنكساراً وإقبالاً وإخباتا واستقامة كبرى وسمعاً وطاعةً وتعظيماً لله تعالى وإخلاصاً ! ومعرفة بالعدو الأول والأخير العدو الأكبر إبليس ومن اتبعه إلى يوم الدين ، والقوة في التمسك بالله تعالى والوحي والمنزل من عند الله تعالى.

هجرة الرسول الأعظم والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم كانت فتحاً ونصراً وتأريخاً عظيماً وكريماً ! وكانت المفتاح العظيم فتحت به القلوب والعقول والنفوس والأبواب المغلقة والأرض والسماء للخير !
ومع ذلك كانت التحديات عظيمة والتضحيات في سبيل الخروج والمغادرة إلى المدينة كبيرة وعظيمة وقد كان الثمن باهضاً ..

فدفع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم ثمناً باهضاً في المغادرة والهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة
من أموالهم وأوقاتهم ومن قوتهم ومنازلهم ومن جمال راحتهم وطيب استقرارهم.

والمغادرة وإن كانت عميقة وثقيلة على المغادر المغترب فإن وقعها على أهله وذويه وأصحابه وأقاربه عظيم وجسيم وهي الفيصل الحقيقي والمعيار الصادق للحب والمحبة وعدم نسيان الفضل بين الناس .

والجميع ربما ودّع من أهله وذويه وأحبابه وأصحابه وأقاربه العدد الكبير – وداع دنيا – الإنتقال من مدينة إلى أخرى داخل الوطن أو من دولة الوطن إلى وطن آخر – ونحن كسائر الناس نسافر ونغادر ونأتي ونذهب في أرض الله تعالى وتحت جمال سماواته…

وإن كانت وسائل التواصل والنقل بين المدن في القطر والدولة من السهولة بمكان وكذلك بين أقطار وبلدان الأرض كلها ؛ فيها السهولة واليسر والأمن والأمان والاستقرار والهدوء والسكينة والراحة والحمد لله رب العالمين.

إلا أن السفر هو السفر ! والمغادرة لعزيز من الأزواج الأفاضل أو الزوجات الفضليات والأولاد والأقارب والأرحام والأصهار هي مغادرة العزيز الحبيب الكريم ! وبعده عن أهله وذويه وأرضه وسمائه غربة وقد تكون كبيرة إذا طالت مدة الإغتراب .

كنت في مطار الملك عبدالعزيز الدولي في مدينة جدة عروس البحر الأحمر وانا أودع بعض أولادي وقد عزم على السفر ، وارى واشاهد جموع وجماهير المغادرين في صالة المغادرة وهم يودعون أهلهم وذويهم والعيون ملآى بالدموع والقبلات الجميلة والأحضان لاؤلئك المسافرين المغادرين .

في تلك اللحظات الجميلة والمشاعر الإنسانية الأصيلة الحارة والدموع الجارية والانفاس المتقطعة ، والتعلق بالله تعالى بأن يحفظ هؤلاء المغادرين المسافرين تحت كل سماء وفوق كل ارض .

كانت مشاعري وأحاسيسي وانفاسي مع أولادي المغادرين وكذلك مع تلك المناظر والمشاهد الإنسانية الأصيلة الرفيعة العالية.

لقد ودّعت منذ أن عرفت طريق المطار الكثير والكثير من الأهل والأقارب والأرحام والأصهار والأحباب والأصدقاء والبعداء ؛ ها أنا ذا اليوم أودع أولادي في سفرهم الطويل ورحلتهم الجميلة !.

وفي لحظات الوداع والمغادرة فإن علينا أن نلتزم :

أولاً : دعم المغادر أو المسافر بالظن الحسن في ربه تبارك وتعالى وحسن التفاؤل واليقين في عون الله تعالى وتحقيق الأهداف والمقاصد والمطلوبة.

ثانياً: الإيجابية الطيبة الجميلة الهادئة وتغليب التوفيق والسداد والنجاح وتغليب حسن الظن بالله تعالى وأنه موفقه وحافظه وناصره

ثالثاً: تذكير المغادر أو المسافر بالنظر إلى الأجر والثواب العظيم الذي يترتب على السفر والغربة كما وعد الله تعالى..

رابعاً: التحفيز والتشجيع على أن هذا السفر فرصة للنمو والتطوير للأفضل والأحسن بأذن الله تعالى في مجال التخصص والعمل وفي مجال العلاقات الاجتماعية الإنسانية…

خامساً : إلتزام الدعاء بالتوفيق والسداد والعون والإعانة والصلاح والبركة من قبل الله تعالى في هذه الرحلة الممتعة وفي غيرها.

سادساً: الإصرار من المسافر على التغيير والتطوير للأفضل والأحسن في الإقامة والسفر الجديد كالحصول على الشهادة أو الحصول على العمل المناسب أو الزواج أو السياحة المفيدة في تلك البلاد .

سابعاً : الصعوبات والتحديات والعقبات والآلام والأحزان والمصائب
التي تواجه المغادرين كلها فرص للتعليم والتعلم ، والفهم والإدراك والذهاب إلى عمق الأشياء .

ثامناً: خارطة السفر التي يمر بها المسافر أو المغادر خارطة جميلة ، ورائعة وساحرة وجميلة وهي ترفع شعار : ( إنّ طريق الراحة التعبُ ) .

تاسعاً: المغادرون من صالات المطارات هم حقيقة سفراء كبار فوق العادة لأوطانهم أو مواطنون عظماء ، ضحوا بأوقاتهم ، وأموالهم وبقائهم في أرضهم في سبيل طلب علم أو علاج أو نحوه .

عاشرا : منظومة القيم والأخلاق الرفيعة العالية التي يمتلكها المغادرون والتي تميزهم عن غيرهم ، يجب عليهم حسن فهمها ومن ثم حسن تنفيذها وتطبيقها.

المصلح والمستشار الأسري
د. سالم بن رزيق بن عوض.

 

د. سالم بن رزيق بن عوض

أديب وكاتب رأي وشاعر ومصلح ومستشار أسري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى