كُتاب الرأي

تسقط الأقنعة ويبقى الأثر

تسقط الأقنعة ويبقى الأثر

باسم سلامه القليطي 

‏هناك حقيقة جليّة طالما لاحظها من تأمل تفاصيل الحياة وتفرس ملامح الوجوه: أن الإنسان لا يملك أن يُخفي جوهره طويلا. قد يتزين بالكلمات، أو يختبئ خلف الأقنعة، أو يحاول أن يُجمّل صورته بين الناس، لكن ما يزرعه في قلوب الآخرين ومواقف الأيام هو الذي يكشفه في النهاية. فالآثار التي يتركها فيمن حوله أصدق مرآة له من أي كلام أو ادّعاء.
‏من زرع خيرا وجد في وجوه من حوله ابتسامة ممتنة، وكلمة دعاء صادقة، وسيرة طيبة تتردد في المجالس غائبا كان أو حاضرا. الخير لا يحتاج إعلانا ولا تصفيقا، يكفي أن يخرج من القلب، ليعود مضاعفا من قلوب الآخرين. وكأن الدنيا بأسرها تردد مع هؤلاء: هذا إنسان صادق العطاء، صافي النية، عرف كيف يخفّف عن الناس، عسى الله أن يخفّف عنه.
‏وفي المقابل، من اعتاد الشر، وملأ أيامه بالأنانية والأذى، لا يستطيع أن يطيل التخفي خلف قناع الطيبة. مواقفه تفضحه، كلماته المتسرّبة تكشفه، وتعاملاته اليومية تعريه من أي غطاء. فالطبيعة السيئة تُطلّ من ثنايا التفاصيل، حتى وإن اجتهد صاحبها في الإخفاء. وقد قالوا: “تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع الجميع كل الوقت”.
يقول ابن الجوزي رحمه الله:
أتْرُكِ الشَّرَّ وَلا تَأْنَسْ بِشَرٍّ
           وَتَوَاضَعْ إِنَمَّا أَنْتَ بَشَرْ
فَافْعَلِ الخير وأمِّل غِبَّه
           فهو الذخر إِذَا اللَّهُ حَشَرْ
‏ولهذا فإن الصالح لا يحتاج إلى شهادة يقدّمها للناس كي يثبت صلاحه، فحياته نفسها شهادة، وأثره الباقي يكفي. حين ترى من جمع حوله الحب بلا طلب، والاحترام بلا تصنّع، والإجلال بلا مجاملة، فاعلم أنك أمام إنسان صادق أثبتت الأيام جوهره. لا يهم أن يتحدث عن نفسه، فالآخرون يقومون بهذه المهمة عنه دون أن يطلب.
‏أما الطالح، فإنه مهما حاول أن يُلبس نفسه ثوبًا غير ثوبه، سرعان ما تنكشف خيوط الزيف. قد يرفع شعارات البرّ وهو يتاجر بالضعفاء، أو يتكلّم عن المروءة وهو أوّل من يخذل أصحابه، أو يتغنّى بالقيم وهو يطعن في الخفاء. تلك التناقضات لا تصمد طويلا، وما أسرع أن ينكشف القناع وتبقى الحقيقة وحدها.
‏إن أعظم ما يتركه الإنسان في الدنيا ليس المال ولا الجاه ولا المظاهر، بل أثره في القلوب، وصدى مواقفه في الذاكرة. هذه الآثار هي التي تُدوَّن في كتاب الحياة بلا حبر، وهي التي تظلّ شاهدة له أو عليه بعد أن يرحل. فاحرص أن تكون آثارك نورا لا ظلمة، ورحمة لا قسوة، وذكرا حسنا لا عارا. فإن الدنيا تمضي، ولا يبقى إلا ما خلّفته في نفوس الناس، وما ارتفع إلى الله من عمل صادق.

كاتب رأي

باسم القليطي

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى