كُتاب الرأي

باعوا فلسطين بسجادة !!

محمد الفريدي

باعوا فلسطين بسجادة !!

في السياسة، لا تُقاس الوطنية بالشعارات، بل بما يُترك من أثر وكرامة على الأرض. وتجربة فلسطين كشفت كيف تحولت قضية عادلة إلى كيان هزيل يحتفل بالمظاهر بدلا من النضال.

اختار الغرب التعامل مع قضايا العرب بصناعة أنظمة هشّة بدلا من دعم الشعوب الحرّة، وطبّق هذا النهج بوضوح في فلسطين؛ فأوسلو لم تُنهِ الاحتلال، بل المقاومة، واستُبدلت البندقية بسجادة حمراء، والمقاتل بالمفاوض، والقضية بوظيفة لدى الاحتلال.

كان ياسر عرفات زعيم الثورجية يخاطب الجماهير الفلسطينية والإسرائيلية بالبندقية في يد وغصن الزيتون في يد أخرى، وانتهى به المطاف إلى التوقيع في أوسلو على اتفاق اعترف فيه بـ٨٠٪ من فلسطين كأرض لإسرائيل، مقابل كيان إداري هزيل اسمه “السلطة الفلسطينية”، لا يملك جيشا ولا سيادة، ولا حتى مطارا تطير منه الطائرات الورقية.

ولم تكن مفاوضاته صراعا على الحقوق، بل على اللقب.

أراد عرفات أن يُنادى فقط بـ”سيدي الرئيس”، وأن تُفرش له السجادة الحمراء، وأن تُستقبله العواصم الغربية كرمز لفلسطين الجديدة، فلسطين المختزلة في “الضفة الغربية وغزة”.

فقد أدرك الإسرائيليون مبكرا أن الفريق الفلسطيني المفاوض لا يهتم بالأرض، ولا بالقدس، ولا بالمياه، ولا بالأمن، بل يهتم بأن يُعامَل ياسر عرفات كرئيس دولة، فقرروا منحه الألقاب، وتركوا له أن يسير على السجادة الحمراء، مقابل أن يأخذوا هم الأرض وما تحتها.

وكانت سنوات محمود عباس امتدادا لهذا الانحدار، حيث لم تأتِ سلطته من نضال أو شرعية انتخابية، بل من رغبة غربية في وجود “شريك فلسطيني” يُريح الاحتلال. فلم يُجرِ عباس انتخابات منذ التسعينات، لأنه لا يمثل إرادة الشعب الفلسطيني، بل إرادة داعميه من الإسرائيليين والغربيين. وفي عهده، تحولت الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى أداة لقمع الفلسطينيين بدلا من حماية الأرض والكرامة.

في زمن محمود عباس لم تُهدم فقط البيوت في القدس وغزة والضفة الغربية، بل هُدمت القضية الفلسطينية ذاتها، واستُبدلت بتنسيق أمني، وقمم صامتة، ووعود دولية لم تأتِ بنتيجة، وتوسعت المستوطنات كما لم تتوسع من قبل، والغرب، الذي يتحدث عن الديمقراطية في كل مكان، لم يسأل أبدا كيف يحكم هذا الرجل بلا شرعية انتخابية، ولم يسأل عن نضال شعب بأكمله صودر أمام كاميرات الصحافة الدولية.

المشكلة ليست في عرفات وعباس وحدهما، بل في الفلسطينيين أنفسهم. فهذا التهاوي لم يكن ليتحقق لولا قبولهم به، وإن كان المجتمع الفلسطيني – أو معظمه – تم التلاعب بعقله حتى بات يهتم بالشكل دون المضمون، وبالمراسم دون المعارك، وبالراية والسجاجيد الحمراء دون الأرض.

احتفل بأن صار له رئيسٌ مؤمن بلحية وغترة فلسطينية، وزوجة مسيحية تلهف المليارات، وممثلٌ في الأمم المتحدة، بينما كانت الأرض تُنتزع شبرا بعد شبر.

لم يسأل كم دفع ثمنا للسجادة الحمراء التي مشى عليها فخامة الرئيس، لأن المظاهر خدرته، والواقع المؤلم لم يعد يهمه.

ما حدث في فلسطين فيما مضى نموذج واضح لتفكيك القضايا العادلة وتحويلها إلى مسرحيات هزلية رمزية، فقد أُعطي الفلسطينيون “سلطة” اسمية مقابل أن يتنازلوا عن السيادة، وأُعطوا “رئيسا” مقابل أن يتنازلوا عن القدس.

رُفعت لهم الأعلام في أوروبا، بينما رُفعت الجدران في الخليل، ورُفعت البنادق في وجه الفلسطينيين بدلا من الاحتلال.

لقد تراجع الفلسطينيون من زمن “اليوم صار عندي بندقية” إلى زمن “اليوم صار عندي سجادة”، سجادة حمراء تُفرش فقط لمن يتقن لعبة التنازلات، ويُجيد فن الابتسام للمحتل، ويستبدل النشيد الوطني بمراسم بروتوكولية تليق بـ”دولة غير موجودة إلا في أحلام القادة الفلسطينيين”.

لن يسجل التاريخ كم مرة صافح فخامة الرئيس الفلسطيني قادة العالم، بل كم مرة حمى شعبه، وصان ترابه، ورفض أن يساوم على دماء الشهداء.

أما الذين رضوا أن يسيروا على السجادة الحمراء مقابل بيع ما تبقى من فلسطين، فسيأتي يوم تُطوى فيه صورهم في أرشيف الهوان، وستبقى فلسطين معلقة على فوهة بندقية لم تُطلق بعد، في انتظار من لا يرضى بالسجادة بدلا عن الأرض.

جهلٌ وهزيمة غُلِّفا بالخنوع والتبعية، وحوّلت الشعارات النضالية القديمة إلى استعراضات، والبنادق التي رُفعت باسم فلسطين إلى جوازات عبور نحو عواصم ترسم مصير القضية بيد المحتل، لا بيد المناضلين .

ظنّ البعض أن دخول عرفات إلى غزة كان تحريرا، لكنه في الحقيقة كان دخول صيد ثمين إلى قفص أوسلو، حيث قُيّد و قُيّدت المقاومة وأُطلقت يد الاحتلال.

سقطت البندقية أمام المصافحة، وتحولت الغترة الفلسطينية إلى وشاح بروتوكولي في حفل تسليم مفاتيح القضية الفلسطينية لإسرائيل.

لم يكن السلام مع العدو سلاما، بل كان استسلاما مغلفا بلغة الاعتراف الدولي والقرارات الميتة، التي تُكتب لترضى بها أمريكا، وتُرفض إن أزعجت تل أبيب.

ثم جاء محمود عباس ليُتمّ ما بدأه عرفات، ولكن من غير قتال ولا مقاومة، بل بالتصفيق لإسرائيل في المحافل الدولية، والتنسيق الأمني الذي صار عنده أقدس من القدس نفسها.

سلطة تعتقل الفلسطيني وتشي به، وتؤمن للاحتلال راحة المحتل.
سلطة بلا سيادة، ورئيسٌ بلا شرعية، ورايةٌ مرفوعة على جدار يزداد ارتفاعا كل يوم. والغرب، كما وعد الفلسطينيين، لم يبخل عليهم بالسجاجيد الحمراء، ولا بالمراسم، ولا بالألقاب.. “فخامة الرئيس”، “سيادة القائد”، “الرمز الوطني الكبير”؛ وكل ذلك مقابل نزع سلاحهم، ونسيان ملف اللاجئين، وتهميش القدس.

اليوم، حين يقف عباس أمام الإعلام الغربي، يبتسم الغرب في وجهه لا حبّا فيه، بل شكرا له لأنه نجح في تحويل النضال الفلسطيني إلى وظيفة، ودماء الشهداء إلى ملفات تنمية وتطوير تديرها منظمات مانحة، وتنفق عليها أجهزة أمنية لا تعرف غير كيف تحمي الاحتلال من أهل الأرض الأصليين.

فقد تحولت فلسطين من أرض محتلة إلى قضية مؤجلة، ومن مشروع تحرر إلى مشروع حكم ذاتي فاشل، والعرب والفلسطينيون صامتون، والمجتمع الدولي يتثاءب، وإسرائيل تبتلع ما تبقى من الأرض تحت عيون سلطة لا ترى، أو لا تريد أن ترى، لأنها ببساطة .. ترى السجادة الحمراء أكثر أهمية من الحقل والزيتون والبيت والطفل والدم الفلسطيني.

فيا أيها الجيل الفلسطيني القادم، حين تنظر خلفك لن تجد غير حطام، وحين تبحث عن فلسطين لن ترى سوى مقاطعة تُدار بأوامر التنسيق الأمني، وحين تسأل: أين القدس؟ أين النكبة؟ أين حق العودة؟ فلن تجد إلا جوابا وحيدا هو: “كان وما زال عندكم رئيس وسجادة حمراء”.

فلسطين لا تحتاج إلى مراسم ولا إلى ألقاب فارغة، بل تحتاج إلى عقول صلبة وأرواح تقاوم، بحاجة إلى من يرفض السجادة الحمراء، ويصر على مقاومة المحتل حتى آخر قطرة من قلمه أو من دمه.

وما كانت تجربة الفلسطينيين مع أوسلو ونتائجها إلا درسا قاسيا في تمييع القضايا العربية وتفكيكها، ولن تنقذ فلسطين السجاجيد الحمراء ولا الألقاب المستوردة من عواصم الدول الأوروبية.

الشعوب التي ترى السلام في التنازلات تختار طريق الذل، وفلسطين المجمدة في ملفات الأمم المتحدة تجسد عجز أمة بأكملها.

وحين ينهض الجيل الفلسطيني القادم ويتسلّم زمام المبادرة، سيدرك الجميع أن فلسطين لا تُستعاد بالسجاجيد الحمراء، بل بالدماء الزكية والإرادة التي لا تنكسر ولا تلين.

لذلك، يبقى السؤال: هل سيرتفع الصوت الفلسطيني من جديد؟ وهل سيحمل الجيل الحاضر أمانة القضية كما فعل الآباء، أم سيظل التاريخ يردد أصداء الاحتلال، وسط صخب ألقاب ومسرحيات سياسية تستهين بالأرض والكرامة؟

يا أيها الفلسطينيون، يا أيها العرب، يا أيها الأحرار في كل مكان …
احذروا من استبدال التاريخ بالبروتوكولات، والمقاومة بالمجاملات والسجاجيد الحمراء، فالتاريخ لا يرحم، ويُكتب لمن تمسك بأرضه، لا بالكراسي. وإن ضاعت فلسطين، فإنها لم تضِع بيد الاحتلال وحده، بل بأيد فلسطينية طُبعت بصماتها على السجادة الحمراء بدل الزناد.

سجادة حمراء مقابل وطن؟!
يا لها من صفقة!
صفقة لا تُكتب في كتب التاريخ، بل في سجل الخزي والخيانة والندم والعار إلى يوم يُبعثون.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

تعليق واحد

  1. مقال رائع وجريء يحكي الواقع الفلسطيني المر دون مجاملة ، سلمت يداك أيها البطل وياليت بقايا الشعب الفلسطيني يعون ما تكتب وتقول .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى