كُتاب الرأي

الخطأ لا يُمحى والنظام فوق الجميع

محمد الفريدي

الخطأ لا يُمحى والنظام فوق الجميع

كان لنا مدير نعرف جميعا أنه يأكل ناقة الله وسقياها، وحين وقع في شر أعماله أخذ يقول في التحقيق للمحققين : “أنا كنت غشيم، وأجهل النظام”!

وهو مسؤول كبير ومهمته الأساسية تطبيق الأنظمة واقتراح التعديلات عليها، ومراقبة أداء الإدارات، والتعامل مع المسؤولين الكبار، وأكثر من ذلك، يترأس لجنة أمنية في قطاع حساس!

فهل يعقل الآن أن يستجدي التعاطف ليخرج من المسألة سالما، وينجو و معه الآخرون؟!

ربما كان يظن أنه استثناء، وأن الأمور ستمر مرور الكرام وسط انشغال الناس بقضايا أكبر.

النظام واضح، يمنع استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب خاصة يا سيدي، لكنك تجاوزت كل الخطوط الحمراء، واليوم تحاول بكل برود تبرير موقفك بأنك “لم تكن تدري” و”ما كنت تقصد”!

وماذا عن مصالح الناس إذن؟ من يحميها؟!

الشفافية لا تتحقق بمجرد الاعتراف بالمخالفات بعبارات مثل “ما كنت أدري” و”ما كنت أقصد”.

كيف تكون في موقع المسؤولية، ثم تدعي الجهل بالأنظمة التي تحكم عملك؟!

الواضح للجميع أن ما حدث منك هو استغلال نفوذ وصفقات قمت بها خارج نطاق القانون، والتبريرات لا تغير الحقيقة. وعندما وجدت نفسك محاصرا بالأسئلة، كان ردك الوحيد: “أنا لا أدري وأجهل النظام”!

يا رجل، أنت لعبت بمصير “أشناب كثيرة” وإدارات كاملة، واليوم تقول بكل بساطة: “ما كنت أدري أن هذا تضارب مصالح، وخلاص اتركوني أروح بيتي”؟!

هذا استخفاف بعقول الناس!

كأنك تفترض أن المواطن والموظف لا يفرّقان بين الخطأ العفوي والتلاعب المتعمد.

لا وفي النهاية، بكل وقاحة، تشكر من “نبهك”، وكأنك ضحية، بينما الحقيقة أنك كنت المستفيد الأول!

المصيبة ليست فقط أنك “شخشخت” على نفسك في التحقيق، بل أنك تحاول جرّ الناس الأبرياء معك إلى هذا المستنقع !

والمشكلة ليست في الخطأ فقط، بل أيضا في أسلوبك الوقح في التلاعب بالحقيقة.

المواطن اليوم أكثر وعيا، ويدرك أن مثل هذه التبريرات ليست سوى محاولات للهروب من المساءلة.

كيف تقنع الناس بأنك لم تكن تدري، وأنت في موقع تنفيذي وتشريعي يُفترض أنك العارف بتفاصيل الأنظمة؟!

ثم بعد كل هذا، تتوقع أن ينتهي الموضوع بكل بساطة وكأنه لم يكن، فقط لأنك ذكرت أنك “لا تدري” ؟!

وكأن الضرر الذي حدث منك مجرد خطأ بسيط يمكن التغاضي عنه!

يا رجل، القضية أكبر من خروجك أو بقائك، هذه مسألة نزاهة وثقة، وهذه التصرفات هي التي تفقد المؤسسات الحكومية مصداقيتها أمام الناس.

لا يكفي الاعتذار بعد وقوع الضرر، ولا يكفي التبرير بعد انكشاف المخالفة.

البلد بحاجة لمسؤولين يدركون حجم الأمانة التي يحملونها، لا مجرد أشخاص يرون المناصب امتيازات شخصية، ثم يطلبون العفو والتعاطف معهم عندما تنكشف الأمور!

المسؤولية تكليفا وليست تشريفا، والمناصب ليست مجرد ألقاب تُحمل بلا تبعات.

حين يُعطى الشخص ثقة القيادة، فهو مؤتمن على خدمة وطنه، لا على خدمة مصالحه الشخصية.

المشكلة ليست فقط في الخطأ، بل في العقلية التي تبرره وكأنه أمر عادي يمكن تجاوزه بكلمة “ما كنت أدري”!

إن كانت الجهالة حجة، فلماذا وُضعت الأنظمة؟

وإن كان التجاوز مقبولا، فلماذا نحدث الناس عن النزاهة؟!

المواطن اليوم لم يعد يقبل بهذه الترهات والمبررات، والشفافية الحقيقية لا تعني الاعتراف بالمخالفة بعد افتضاحها، بل تعني تجنبها من الأساس.

البلد يحتاج إلى من يفهم معنى الأمانة، لا إلى من يسعى للنجاة بنفسه متى ضاقت عليه الدائرة.

وإن كان البعض يظن أن الصمت سينقذهم، فالتاريخ لا ينسى، والمجتمع لا يغفر لمن خان الثقة ثم حاول التملص منها بذرائع واهية!

المحاسبة ليست خيارا، بل هي ضرورة لحفظ هيبة الدولة وثقة المواطنين في مؤسساتها.

ومن يتولى المسؤولية يجب أن يكون مستعدا لتحمل تبعات قراراته، لا أن يبحث عن مخرج عندما تُكشف مخالفاته. الاعتراف بالخطأ لا يعني إسقاط المحاسبة، بل هو أول خطوة في طريق الإصلاح الذي لا يكتمل إلا بإجراءات واضحة تضمن عدم تكرار هذه التجاوزات مرة أخرى.

الناس اليوم أكثر وعيا، ولم يعد من السهل تمرير الأعذار السخيفة عليهم.

ولا يكفي أن يقول المخطئ “لم أكن أعلم”، لأن الجهل بالنظام ليس مبررا، بل هو في حد ذاته تقصير يستوجب المساءلة.

إن كان البعض يظن أنه قادر على النجاة بمراوغات لغوية أو صورية، فهو واهم. المسألة ليست مجرد موقف شخصي، بل قضية نزاهة وطنية تمس الجميع.

وعلى كل من اختار العمل الحكومي كبيرا كان أو صغيرا أن يدرك أن المحاسبة قادمة لا محالة، لأن الدول لا تُبنى على المجاملات، بل على العدل والشفافية والالتزام بالمسؤولية.

وحين تُهمل المحاسبة أو تُخفف التبعات بحجج واهية، فإن ذلك لا يعني انتهاء المشكلة، بل يعني فتح الباب أمام تكرارها. لا يمكن أن تُبنى دولة قوية بمسؤولين يعتقدون أنهم فوق القوانين والأنظمة، ثم يتراجعون حين تُكشف أخطاؤهم وكأن شيئًا لم يكن.

الصالح العام لا يحتمل المجاملات، والشفافية ليست شعارا يُرفع عند الحاجة، بل مبدأ يُطبَّق على الجميع بلا استثناء.

حين يفقد المواطن ثقته في نزاهة المسؤولين، فإن أول ما يتآكل هو الإحساس بالعدالة، وأخطر ما يترتب على ذلك هو انهيار القيم التي تُبنى عليها الدول.

البلد ليس ميدانا للتجارب، والمناصب ليست متاجر للمكاسب.

من لا يدرك حجم المسؤولية، أو يظن أنه قادر على التلاعب والتحايل، يجب أن يعلم أن الزمن تغيَّر، وأن المجتمع لم يعد يتسامح مع من يستغل السلطة لمصالحه الخاصة.

ومن يفرُّ من المحاسبة اليوم قد ينجو مؤقتا، ولكن التاريخ لا ينسى، والناس لا تغفر لمن خان الأمانة، والحقيقة تظل أقوى من كل محاولات التلاعب.

القائد الحقيقي ليس من يبحث له عن مخارج عند وقوع الخطأ، بل هو من يتحمل المسؤولية بشجاعة ويتعامل مع الوضع بحكمة لإصلاحه.

ومن يعتقد أنه يستطيع الالتفاف على القوانين والاعتماد على الأعذار الواهية، فهو لا يدرك أن وعي المجتمع اليوم أقوى من أي محاولة للتضليل.

كل منصب يُشغل في الدولة هو أمانة، ومن لا يستطيع الوفاء بهذه الأمانة فليتنحَّ قبل أن يُجبر على ذلك جبرا.

البلاد لا تحتاج إلى مسؤولين يبررون أخطاءهم عند أول مساءلة، بل تحتاج إلى رجال دولة يدركون أن المناصب تكليف لا تشريف، وأن من يخطئ يجب أن يُحاسب، لأن المحاباة في هذه الأمور تضر بالوطن قبل أي شيء آخر.

لقد ولى زمن الصمت، وحان وقت الحزم. إما أن تكون في موقع المسؤولية بأخلاق رجال الدولة، أو تواجه عواقب أفعالك، فالمجتمع لن يقبل بعد اليوم بأي تهاون في المحاسبة، ولن يرضى بأنصاف الحلول التي تفتح الباب للمزيد من الفساد.

ومن لا يستطيع أن يكون أهلا لها، فمكانه ليس في مواقع صنع القرار، بل في خارجها.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫4 تعليقات

  1. نعم الرجال هم من يشرفون المناصب وليس العكس، مقال في قمة الروعة استاذ محمد كما هو معروف عنك بالاسلوب والطرح الجميل.

  2. هي أزمة ضمير ياصديقي ! متى تخلص الإنسان منها استطاع قيادة نفسه أمام ضعفها
    الوقوف أمام الضعف هو أبلغ دليل على قوة ومتانة البشر.
    لا تضعف أمام المغريات تكسب.
    لا تستلم لبريق المنصب تفوز.
    لا تتسلم منصبًا.دون أن يكون لديك الملاءة المالية الكافية.
    لا ترشح نفسك دون أن يكون لديك الكفاءة الإدارية المناسبة.
    باختصار كن مستعدًا في كل الأحوال أن تقف أمام ضميرك بشجاعة

    1. جزاك الله خيرا يا سعادة اللواء حزام، وبيض الله وجهك على كلماتك الطيبة.
      شهادة أعتز بها من رجل دولة محنك مثلك، وصاحب مواقف مشرفة. حفظك الله ووفقك لكل خير.
      أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى