وزارة التعليم و (طناجرنا) الفارغة

محمد الفريدي
كان أحد معلمينا الفلسطينيين في مدرستنا الابتدائية قبل ٦٠ عاما، إذا لم أتمكن من الإجابة على أحد أسئلته، يمسك برأسي أمام الطلبة، ويقول : (ولك شو مليانه هالطنجره؟!).
عندما أتذكر تلك العبارة الآن، أجد أن تشبيه رأسي بـ (الطنجرة) كان دقيقًا، فكما أن الطنجرة تنتج وجبات لذيذة إذا وضعت فيها المكونات الصحيحة، فإن عقولنا أيضًا تصوغ شخصياتنا وأفكارنا بناءً على المعلومات التي نغذيها بها. لذا، القراءة مسألة بالغة الأهمية بالنسبة لنا، فهي مصدر ثري لملء (طناجرنا) بالمعرفة.
القراءة ليست مجرد وسيلة للحصول على المعلومات، بل هي مفتاح لتوسيع آفاقنا ومداركنا وتشكيل رؤيتنا المستقبلية، فمن خلالها، نكتشف عوالم جديدة، ونفهم افكارا مختلفة، ونتعرف على تجارب الآخرين، وما نقرؤه مع ما نعرفه فيما مضى يشكل في النهاية نسيجاً متكاملاً من الأفكار والمعرفة.
كما يحتاج الطاهي إلى مكونات متنوعة لإعداد وجبة شهية، فنحن أيضًا نحتاج إلى تنوع فيما نقرؤه من كتب ومقالات وأبحاث وقصص، لتغذية (طنجرة) عقولنا بمختلف الأفكار، وعندما نتناول موضوعات متنوعة، ونتعمق فيها، نصبح قادرين على تكوين أفكار أعمق، وتحليل الأمور من زوايا مختلفة، واتخاذ قرارات أكثر منطقية وحكمة.
لذا يجب أن نملأ (طناجر) عقولنا بأفضل المعارف والأفكار لنصبح أكثر وعيًا ونضجًا. فالعقل المليء بالمعرفة ينتج فكرًا غنيًا قادرًا على التنوع والإبداع، ومع مرور الوقت، يصبح هذا التنوع الفكري والمعرفي أساسًا لتطورنا الشخصي والمهني، فالقراءة تحفزنا على التفكير والإبداع، وتكشف لنا إمكانيات جديدة، وتفتح أبواباً للحوار مع الذات، ومع الآخرين، وتساعدنا على فهمنا واحترامنا لوجهات النظر المختلفة، وتساعدنا على التواصل معهم بعمق وفعالية.
القراءة المستمرة هي ما يميز الناجحين والمبدعين، فهي تتيح لهم تطوير أنفسهم باستمرار وإيجاد حلول مبتكرة، وكما يختار الطاهي مكونات (طناجره) بعناية ليقدم وجبة متكاملة، فإن المدرس العظيم يعرف اولا كيف يختار ما يملأ به (طنجرته) ليبني عقولا متوازنة يستفيد منه الجميع أينما حلت وأينما ارتحلت.
القراءة هي أساس نمونا الشخصي والفكري، وسبيلنا للتميز والابتكار، فاملأوا (طناجركم) يرحمكم الله بأفضل المعارف لصقل عقولكم وعقولنا، وصناعة مستقبلكم ومستقبلنا.
أما أنا، فكلما استذكرت بعض الجوانب المظلمة من تجربتنا التعليمية، وخاصة مع بعض معلمينا الفلسطينيين والشوام، أجزم أن وزارة المعارف آنذاك فشلت فشلاً ذريعًا في استقطابهم كمربين ومعلمين حقيقيين لنا، فقد سلمت “طناجرنا” لهم من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية، وتعاملوا معنا بغطرسة بدلاً من تشجيعنا، واعتبارنا بدو متخلفون لا نستحق سوى الاستهزاء والضرب بـ(الفلكة).
كانت تلك الحقبة تتسم بعدم التقدير لعقول من جاءوا من بيئة فقيرة ليتعلموا المعارف والتجارب التي سبقونا إليها، فكثيرا ما عوملنا منهم بتجاهل واحتقار، وكان بعضهم لا ينظر إلينا إلا على أننا (دلوخ وأغبياء)، ونحن نراهم في نفس الوقت غرباء، ويعانون من العزلة والتشتت، ويصعب عليهم الاندماج في مجتمعنا وأغبياء.
هذا النوع من المعاملة لم يكن عادلاً من الطرفين، فبينما كان يلعب بعض المعلمين دورا مهماً في نقل العلم وبناء الجسور بين الشعوب، كانوا هم أيضًا جلادين وسفراء لثقافاتهم الثورية المستبدة المتعجرفة، وينقلون لنا رؤى تزيدنا بُغضًا للعالم وكراهية بدلاً من توسيع آفاقنا، وغرس ثقافة تقبل الطرف الآخر .
اليوم، ونحن نحتفي بعودة الطلاب والمعلمين لمدارسهم، نتذكر الظلم الذي عانيناه من بعض معلمينا الشوام ومن عنصريتهم البغيضة. والمؤسف حقا ان وزارة التعليم تحتفي بكل ما يخص التعليم والمعلمين في كل عام، ولا تحتفل بتضحياتنا كضحايا لسياساتها القديمة التي جاءت بمثل هؤلاء مربين لنا، حتى لا نذكرها في كل عام بفشلها الذريع في استقدام معلمين مفلسين تعلموا فينا التربية والتعليم، ولعبوا في (طناجرنا) ثم رحلوا لأوروبا.
فقد كانت أساليبهم التعليمية قاسية جدا، خاصة مع طلاب المرحلة الابتدائية، حيث شملت بالإضافة إلى الضرب العنيف إطلاق العبارات المسيئة التي تسببت لنا بآثار نفسية سلبية طويلة الأمد.
وفي هذه المرحلة العمرية بالتحديد، يعتمد الطلاب على دعم معلميهم لتشكيل هويتهم وثقتهم بأنفسهم، ولكننا بدلاً من ذلك تعرضنا للضرب والتوبيخ العلني والاستهزاء، مما زرع فينا شعورًا بالعجز والإحباط، وعدم الثقة بأنفسنا.
كانت هذه الأساليب التربوية الغبية تعيق مسيرة تعلمنا بدلاً من ان تحفزنا، وقتلت فينا حب الإطلاع والإبداع، وزرعت الخوف والتردد بداخلنا، بل جعلتنا نركز على تجنب الإهانة بدلاً من فهم المادة، وتطوير قدراتنا.
وإلى جانب هذه التأثيرات النفسية، أسهمت عباراتهم المسيئة في خلق بيئة مدرسية مليئة بالخوف والرهبة والعنف والابتذال بدلاً من ان تكون بيئة مشجعة محفزة على الإبداع، حتى فقدنا مع مرور الوقت ثقتنا بأنفسنا، وأصبحت قدرتنا على مواجهة التحديات الدراسية والاجتماعية أقل، بسبب هذه الوزارة التي كانت تتخبط بقراراتها، وتري إنها كانت تحسن صنعا.
إن هذا الأسلوب في التعامل مع طلاب المرحلة الابتدائية يكشف لنا مدى النقص في الفهم التربوي الذي كان يفتقر قديما للتعاطف والتراحم والإنسانية، فالتعليم هو عملية بناء ودعم، وليس عملية تدمير وإحباط، ويفترض أن يكون جميع المعلمين قدوة في الصبر والحكمة، وأن يروا في أخطاء طلابهم فرصًا للتعلم والتحسين، وليس مبررًا للإساءة والإهانة.
والتعليم ليس مجرد نقل للمعلومات والمعرفة، بل هو بناء للإنسان أيضاً، فعندما نتعامل مع طلابنا بحب واحترام، فإننا نسهم في تشكيل شخصياتهم ليصبحوا أفرادًا واثقين من أنفسهم، و من قدراتهم ومبدعين، فكلماتنا يمكن أن تكون أدوات بناء، أو هدم، إذا تعلم اولا المعلمين في المراحل المتقدمة فنون التعامل مع (طناجرنا) الفارغة.
القراءة مهمة جداً جداً واوافقك فيما ذكرته عن ذلك ..
فيما يخص التعليم قديماً صحيح هناك قسوة وغلظة من بعض المعلمين ولكن كان هناك مردود إيجابي لهذه القسوة وكانت لصالح الطالب وخرجت اجيال على قدر من العلم والمعرفة والثقافة .. بينما الجيل الحالي فارغة (طناجرهم ) وما يتعلمونه مجرد حشو معلومات لا تلبث إلا أن تتبخر بعد الامتحان مباشرة ..
أدخل أي مدرسة الان وسوف ترى العجب العجاب سواءً من بعض المعلمين أو الطلاب .. فلا إحترام للمعلم ولا تقدير لدوره التعليمي .. ولا المعلم يقوم بواجبه على الوجه الاكمل مجرد تأدية واجب وآخر الشهر ينتظر الراتب ..
اعتقد ومن وجهة نظري أن ( طناجرنا ) اقصد الجيل القديم مليئة بالعلم والمعرفة والثقافة والادب مقارنةً (بطناجر) الجيل الحالي بفضل من الله وبسبب هذه الغلظة والشدة التي ذكرتها ..
اكتفي بهذا القدر ..
مقال جميل كالعادة ولا غرابة في ذلك عندما يكون الكاتب ابو سلطان .
تقبل تحياتي
مقالة متميزة ، التفاصيل أيقظت الذاكرة، وبعثت تلك الأيام التي عانيت فيها حقيقة من المدرسات _سامحهن _الله رغم إني كنت من المتميزات المتوفقات ولكن كان بدافع الخوف وخاصة غرفة الفيران وتلك العصا الغليظة
والوقوف إلى جوار السبورة …. الخ
كانت من الأمور المرعبة بالنسبة لي
والحمد لله أن جعلني اليوم معلمة أعامل طالباتي بكل ماتتطلبة العملية التربوية من تقدير واحترام سواء كانت متميزة أو مقصرة ولكل واحدة منهن إسلوب لايقلل من إنسانيتها
فالجيل الذي نعلمه اليوم جيل واعي يحتاج إلى أساليب خاصة مقننه حتى نصل لهدف التعليم المرجو
تقبل تحياتي أستاذ 🌹
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما شاء الله تبارك الله
أحسنتم أحسنتم أحسنتم
حبيبنا الغالي أبا سلطان
كانت تلك مرحلة من مراحل التكوين والتشكيل لنا ، وعلى قدر ما فيها من الآلام والجروح الغائرة والعنف الذي يصل إلى مستوى التعذيب أحيانا…فإننا ولله الحمد والمنة والفضل
وصلنا إلى مستويات تأهيل عالية في أفراد المجتمع ؛ فلا تخلو اليوم أسرة أو حتى قرية من حصول أولادها على أعلى الشهادات العلمية وربما أعلى المراتب الوظائف في الدولة الكريمة المباركة ..
شكرا شكرا شكرا لكم أبا سلطان
على المقال الجميل
وإلى الأمام دائما وابدا…
لافض فوك ، نعم ذلك الجيل هو الجيل الذهبي العصامي الذي كم بذل وتحمل الصعاب وعانى من أجل العلم ،
لافض فوك👍
شكراً كاتبنا المتمكن صاحب القلم الذهبي 💐
بعنوان جاذب دعوت للقراءة وأوضحت أهميتها وعرجت على ذكرى مؤلمة واسترجعت شريط صور مختلفة من أساليب التربية والتعليم الخاطئة ونصحت ووجهت بما يجب لبناء عقول الناشئة كل ذلك بأسلوب شيق وممتع ..
رائع جداً ..موفق ومسدد أ محمد