لماذا لا يكتب السياسيون السعوديون مذكراتهم؟

تَسَاؤُل يراودني دائمًا : لماذا لا يكتب السياسيون السعوديون من ملوك وأمراء ووزراء وأمنيين، مذكراتهم الشخصية وينشروها كبقية المسؤولين في دول العالم؟!
هذا السؤال دائماً يفتح لِي أَبْوَاب من التساؤلات حول أسباب غياب مثل هذه الممارسات الإيجابية، ليس في مجتمعنا السعودي فقط، بل وحتى في الدول الخليجية والعربية أيضاً، خاصة عندما نَجِدُ أَنَّ أَسْرَار كَثِيراً من القضايا المهمة والمصيرية تُدْفَن مع رحيل هؤلاء السياسيين، ونضطر لاحقًا إلى الحصول على المعلومات من مصادر خارجية، غالبًا ما تكون معادية، فتقدمها لنا مُحَرَّفَةً، أو مكذوبةٍ، على أنها حقائق مُسْلِمَةً لا شيء فيها.
بينما في المقابل، نجد السياسيين في الغرب، لا يترددون، في نشر مذكراتهم الشخصية، مثل الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، الذي كان يصاحب فترة حكمه جدل كبير، يصدر مذكراته بعنوان (قرارات مصيرية)، ويعترف فيها بخطأه فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل العراقية، وبأخطاء أخرى في حربه على الإرهاب، ولا يجد في نفسه غضاضة من أن يَذْكُر عَلَى الْملأ بأَنَّهُ خُدِعَ.
هذا النمط من الشفافية موجود كذلك لدى رؤساء آخرين، مثل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، في كتابه (الأرض الموعودة)، ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، في مذكراتها (الخيارات الصعبة).
وفي كتاب (مذكرات ونستون تشرشل) نجد مثالاً بارزاً أيضاً لكيفية أن تكون المذكرات الشخصية جزءاً من تاريخ الأمة، فلم يكتف تشرشل بسرد الأحداث من وجهة نظره كشاهد على تلك الحقبة، بل قدم أيضًا تأملات عميقة حول السياسة، والحرب، والقيادة.
وفي بلدان الشمال الأوروبي، تشكل الشفافية جزءاً لا يتجزأ من ثقافتها السياسية، وينشر رؤساء الوزراء والمسؤولون الحكوميون، مذكراتهم التي تسلط الضوء على تفاصيل القرارات والسياسات التي نفذوها خلال فترة وجودهم في السلطة بكل أريحية.
وبصراحة نحن في أمس الحاجة إلى تبني مثل هذه الثقافة في المملكة العربية السعودية، فنشر مُذَكَّرَات سِيَاسِيَّيْنَا ليست مجرد مَسَاعٍ فَرْدِيَّة نقوم بها متى نشاء، بل هي جزء من بناء تاريخ مشترك، نتعلم منها الكثير من المبادئ والقيم، والمهارات، وفنون السياسة، وأساليبها، ويسهم في تعزيز الثقة بين المواطنين والمسؤولين، ويقدم منظوراً داخلياً صادقاً للأحداث الكبرى، والقرارات الحاسمة، والمصيرية، وما كان يرافقها من عقبات، وتقلبات سياسية، وتطلعات وطنية، ويساعد الأجيال القادمة على الإستفادة من تجاربنا الماضية، وَتَجَنَّب أَخْطَائِنَا السَّابِقَة.
إن غياب المذكرات السياسية يحرمنا من حقنا كمواطنين في معرفة ما حدث، وما سيحدث في بلادنا، ويتركنا دون درع ثقافي يحمينا، ويعرضنا للشائعات والمعلومات المغلوطة، فإذا لم نبدأ بكتابة مذكراتنا السياسية الآن، وننشرها لتستفيد منها الأجيال القادمة، فهل ننتظر بالله عليكم في خضم هذه الأحداث العالمية (ويكيليكس سعودي) يكشف أسرارنا، وينشرها للجميع على الملا؟!
نحن بحاجة إلى ثقافة جديدة في المملكة العربية السعودية تقوم على الانفتاح والشفافية، وَكَشْفِ الْحَقَائِقِ الْقَدِيمَةِ لِلْمُوَاطِنِين، والأسرار التي طالما استخدمها أعداؤنا ضدنا كأسلحة فتاكة يرعبنا بها، وكل ما كان يَحْدُثُ خَلْفَ الكواليس، دون الْمَسَاس بأمننا الوطني.
فمن خلال كتابة مذكرات سِيَاسِيَّيْنَا يمكننا أن نبني مجتمعاً أكثر تفهمًا ووعياً، وتاريخاً وطنياً نتعلم منه في الحاضر، والجيل القادم معني الوطنية، وَنَبْنِي مستقبلاً أفضل من مستقبل الذين عاشوا مثلنا فيما مضى، وأكثر أماناً من ماضى آبائنا الذي كانوا لا يعلمون عن ما يدور في بلادنا إلا من خلال إذاعة الـ (BBC)، أو (إذاعة صوت أمريكا)، أو (إذاعة صوت إسرائيل من اورشاليم القدس)، أو الكتب المحفوظة في (مَكْتَبَةَ الْكَونَغْرِسِ الْأَمْرِيكِيُّ)، وَيُلَفِّقُ هؤلاء الكذبة على سِيَاسِيَّيْنَا ما يريدون من أخبار ملفقة وغير صحيحة، وشعوبهم تنصت بدورهم لها لانعدام الشفافية قديما، وعدم وجود مذكرات شخصية توضح الحقائق لهم بشكل واضح وصريح، فاستغلوها أعداؤنا في اللعب على نفسياتهم، وأظهروا سِيَاسِيَّيْنَا لهم بأنهم مجرد خونة ينفذون كل ما يريدون منهم دون تردد.
إن كتابة المذكرات السياسية ونشرها، خطوة مهمة في الطريق الصحيح لتحقيق الشفافية، والمصداقية التي نحتاج إليها اليوم، وَحَرَّمْ منها آبائنا بالأمس، سواء اتفقتم معي أو لم تتفقوا، ونشر مذكرات سِيَاسِيَّيْنَا ليس بالضرورة عن ماضينا فقط، بل أيضًا عن مستقبلنا، وتطلعات سِيَاسِيَّيْنَا، و ما يتمنون تحقيقه لنا، ولننظر إلى تجارب الدول الأخرى بعقلانية، ونتعلم كيف يمكن لهذه المذكرات أن تُسْهِمٌ في بناء مجتمع أكثر امنناً واستقراراً وتحملاً للمسؤولية.
نحن بحاجة ماسة إلى تبني هذا النهج الجديد ليس فقط في مجتمعنا السعودي، بل أيضا في منطقتنا الخليجية والعربية، لمواكبة الأحداث المتسارعة، دقيقة بدقيقة، وساعة بساعة، و على المستوى السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والتطورات الاقتصادية، فالمذكرات السياسية، إن لم نكن نعلم، تؤدي دوراً كبيراً في تعزيز الثقة بين المواطنين والمسؤولين، ومن خلالها نكتسب فهمًا عميقًا للأحداث والسياسات التي تشكل حاضرنا، وتبني مستقبلنا ليكون أكثر أمانًا واستقرارًا في المراحل الْمُقْبَلَةِ.
محمد الفريدي