كُتاب الرأي

الكتابة والبانتوفوبيا

د.هشام محفوظ

كثيرة هي الأحاديث والمقالات عن قفلة الكاتب أو سدة نفسه عن أن يكتب ما لديه ، تفشل كل محاولات استنشاط قلمه .
للتخفيف من الأمر ، يحلو للبعض تسميتها باستراحة الكاتب ، آخرون يرون أن الأمر راجع لأسباب نفسية أواجتماعية أو هما معا ، وقد يكون القرار متعمداً من الكاتب ؛ إذ يقول لنفسه: سأتوقف عن الكتابة مؤقتًا .
و هذا نوع من التوقف قد يكون لأسباب فكرية وثقافية وسياسية ربما لمراجعة أفكاره بنفسه مع نفسه ، أو مع من يثق في رأيه و إخلاص نيته للتصحيح أو الإضافة..إلخ
يرى البعض أن عدم الكتابة لفترة قد يكون جيداً للكتابة، بل قد يجعل من المرء كاتباً أفضل بعد ذلك .
” إرنست همنجواي” الذي رأى وعاش أهوالا عديدة في الدنيا ؛ حيث صارع الثيران في إسبانيا ، وسقطت به الطائرة في إفريقيا ، وأصيب بأعيرة نارية في الحرب العالمية الأولى ، تحَمل إرنست همنجواي صاحب نوبل ، وأحد أهم كتاب القرن العشرين ، وقاوم وتعايش مع كل هذا ومع ما هو أكثر ، لكنه عندما سُئل “عن أكبر المخاوف التي واجهها في حياته ، قال : “الصفحة البيضاء” !
يقصد سدة النفس عن الكتابة ، القفلة القلمية.. أن يجلس ليكتب فلا يجد ما يكتبه !
السدة القلمية شئ يختلف عن قرار أحدنا مع نفسه أن يتوقف عن الكتابة مقسما على ذلك بأغلظ الأيمان ، فتلك حالة لا قلق منها على الكاتب ، لأنه سرعان ما سيبحث عن حيلة لأداء كفارة اليمين عائدا إلى الكتابة مرة أخرى !
الحالة التي نخشى فيها على الكاتب أو الكاتبة ، الحقيقيين ، وعلى المجتمع ، ألا نعرف سبباً لهذا التوقف . الأشد صعوبة علينا وعلى الكاتب ألا يعلم أحد الكتاب سببا لتوقفه عن الكتابة ، أو يعلم ويعجز عن علاج الأمر .
ولا أميل إلى قسوة الآراء من الذين يذهبون إلى ترديد مقولة إنه أفلس ، ولم يعد لديه ما يقوله ! أو أن الكاتب يتحجج بأنه مصاب بالبانتوفوبيا!
حرام على هؤلاء أن يقولوا مثل هذا ، فبدلاً من الاقتراب الإنساني من الكاتب لمساندته في استعادة قلمه ، نجهز عليه ونقضى عليه تماماً ؟!!
يحيرني سؤال كهذا:”هل جلست يومًا لساعات تحدق في ورقة بيضاء؟ تتصارع اللغة والأفكار والموضوعات داخلك . تستجدي هبوط كلمات وعبارات ، لكنها تتأبى و لا ترحم توسلاتك . تكون كمن يفتح باب الثلاجة ليحتسي بعض الماء فلا يجد بها ماء مثلجا ولا كهرباء !
صراع يتملك الكُتاب الحقيقيين ، الذين نبحث عن أسمائهم ، وليس أولئك الذين لم يكتبوا في حياتهم إلا القائمة التي يستعان بها في السوق لشراء مستلزمات الأسرة لأن أم الأبناء بعافية شفاها الله وعافاها !
قد يشعر مثل هذا أن قلبه يمتلئ بالحماس للكتابة عن تلك الأمور لكنه لا يستطيع، لأنه ليس كاتبا بالمفهوم المتعارف عليه ، فيكتفي بالفضفضة على مقهى للشيشة أو مع نفسه ، ولا يجرؤ على تدوين جملة مما يشعر به ؛ فقد يحدد إقامته في البيت أو المستشفى لشجار زوجي لإصابته بكسر في الذراع أو الرجل أو الجمجمة . تلك دعابة ، لا أكثر .
أنا أدعو من كل قلبي بالسعادة لمن يجعل الكاتب دائماً سعيداً بنجاحه في كتابة أفكاره بتسلسل و أريحية و انسيابية، وبرؤيته جدوى مما يكتب ، بحيث يعلم بوضوح ما يريد أن يكتبه والهدف من وراء الكتابة .
حتماً ستأتي أجيال قادمة لتقرأ ما قد سجله الكتاب والمبدعون و أصحاب الأقلام في محطات التاريخ والأحداث . وستحكم الأجيال القادمة مع التاريخ على ما كُتب ، ستحلله لاستبصار المواقف .
لأصحاب الرؤى أقول لا تَدَعُو كاتباً ينسحب بقلمه ، لأن كثرة من يعانون من السدة القلمية قد يؤدي إلى غياب ملائكة التنوير بالتفكير المستنير، كم نحتاج إلى الملائكة!
لنحافظ على تماسكنا ووحدتنا وقوتنا ومساندة إرادتنا وقيادتنا ، الرجاء المساعدة والعون بالصور المناسبة لئلا تنسد نفس كاتب أو كاتبة عن الكتابة ، حتى و إن كان مختلفاً معي أو معك .
الاختلاف تنوع وتجدد وقوة ترهب أعداء أوطاننا .
الأمر الذي أخشاه أن يكون أحد أسباب السدة القلميةلدى هذا أو ذاك لإصابته بالبانتوفوبيا” مرض الخوف من كل شىء . البانتوفوبيا تثير ولا تنير ، تهدم ولا تبني ، تفك ولا تجمع ،
لو أن” جاك داريدا”بيننا الآن صاحب نظرية التفكيكية لأكد لتلامذته وأضاف في أبحاثه النظرية أهمية عنصر البانتوفوبيا في الدرس السوسيوتفكيكي ، السوسيوثقافي ، السوسيومعرفي ، السوسيو حاضر ومستقبل!!
الكتابة روح التقدم ، سبيل النجاح . أما السدة القلمية ، أو قرار هذا أو ذاك مع نفسه بعدم الكتابة ، فهذا مما يجهد المجتمع ويرهقه، ويزيد الأمور الصعبة صعوبة ، لأن الواقعين في معترك التحديات والأزمات لا يكون سهلاً عليهم قراءة المشهد جيداً من كل زاوية ، وبكل الرؤى التحليلية ، لأنه ببساطة قد يكون في قلب قلب تلك التحديات التي قد تكون هي الأخرى مفتعلة ، لتوقف أي حراك أو حوار جاد بناء .
نستكتب من قد اختفى عن المشهد ، ونحن نعلم أن في أدراج وعيه الكثير ، أعني أصحاب الرؤى والتجارب الحلوة والمرة ، لديهم ما نواجه به تحدياتنا الراهنة كافة ، وما لا يخطر على بال أعداء أوطاننا الذين يضعون لكل مسار لنا مسارا افتراضياً مضاداً ، فمن أين وكيف يكون المسار الصحيح إلا إذا كان غير متوقع لأعدائنا ، وما أحوجنا إلى الأفكار الناجحة اللا متوقعة ، وما أخوفنا من البانتوفوبيا!!

د.هشام محفوظ

كاتب وناقد وشاعر _ وإعلامي وإذاعي مصري _ عضو اتحاد كتاب مصر _ نائب رئيس شبكة البرنامج العام _ وكبير مذيعي إذاعة البرنامج العام.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى