كُتاب الرأي

تلميع القتلة وصناع الأكاذيب

محمد الفريدي

تلميع القتلة وصناع الأكاذيب

في عام 2011، ومع بداية الثورة السورية، نشرت مجلة فوغ الأمريكية التي تأسست عام 1892، ولها نسخ دولية بما في ذلك النسخة الفرنسية مقالة بعنوان “أسماء الأسد: وردة في الصحراء”، كتبتها جوان جولييت بَك، رئيسة تحرير النسخة الفرنسية، وقدّمت فيها أسماء الأسد كرمز للأناقة والحداثة والإصلاح، وصورتها كإنسانة تهتم بالشعب السوري، في وقت كان العالم يشهد فيه بدايات الثورة السورية ومأساة إنسانية متصاعدة.

لكن كانت المأساة الحقيقية في نشر تلك الإطراءات وآلة النظام السوري، بقيادة زوجها بشار الأسد تفتك بآلاف السوريين من أطفال ونساء وكبار سن ، ولم يكن نشرها مجرد خطأ تقديري، بل كانت نتيجة صفقة مشبوهة مع شركة علاقات عامة كُلِّفت بتلميع صورة أسماء الأسد والنظام السوري، وتجاهل الجرائم الإنسانية المروعة مقابل مبالغ مالية تافهة مقارنة بحجم المأساة وكمية الدماء البريئة التي أريقت.
هذا التواطؤ الإعلامي الغربي المدفوع بالمصالح المادية عرّى الجانب المظلم للسياسات الإعلامية الغربية التي يمكن أن تتغاضى عن الجرائم في سبيل الربح.

بعد ذلك قام الكاتب الصحفي الأمريكي المعروف بتحقيقاته العميقة في القضايا المثيرة للجدل والدبلوماسية والسياسات الإعلامية دافيد كريستوفر كوفمان بكشف دفع النظام السوري مبلغ 5,000 دولار شهريا لشركة العلاقات العامة “براون لويد جيمس” لنشر مقال جوان جولييت بك التي امتدحت فيه أسماء الأسد ووصفتها بأنها “عنصر الضياء في بلد طافح بالمناطق الداكنة” بهدف تلميع صورة النظام الدموي الذي يديره زوجها الطاغية بشار الأسد.

ثم حُذف مقالها لاحقا من موقع المجلة بعد الجدل الذي أثاره مقال دافيد دون أي اعتذار رسمي من المجلة أو الكاتبة، وبدلا من ذلك، برر مسؤولو التحرير المادة بأنها محاولة لـ”فتح نافذة على هذا العالم”، ولكن هل كان فتح تلك النافذة يستدعي تزييف الحقائق وتجميل نظام قاتل لا يعرف الرحمة؟

المقالة كانت جزءا من حملة إعلامية غربية لتلميع صورة بشار الأسد كـ”طبيب عيون متحضر” وزوجته أسماء كرمز للأناقة والإنسانية، بهدف التغطية على جرائم نظامه ضد شعبه، وتزييف الحقائق، وتحويل القتلة إلى رموز، بينما كان الشعب السوري يغرق في دمائه ومعاناته دون معين.

ومع تصاعد المجازر وفرار الأسد وزوجته إلى موسكو علّقت جوان جولييت بك بقصيدة “الإله يتخلى عن أنتوني” للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس الذي عاش في الإسكندرية بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وترمز إلى تخلي الآلهة عن مارك أنتوني بعد هزيمته في إسقاط واضح على ما آل إليه مصير الأسد وزوجته.

“بغتة، عند منتصف الليل، تصغي.
إلى مرور موكب غير مرئي.
تصحبه موسيقى شجية، وأصوات.
فلا تعلنّن الحداد على حظك المائل الآن…”

استحضارها لهذه القصيدة أثار تساؤلاتي حول نواياها: هل كانت شماتة بالشعب السوري أم تعاطف مع “الجزار ووردته الذابلة في الصحراء”؟
لكن المؤكد في الأمر هو أن هذا الاستحضار لا يعفيها من مسؤولية تمجيد نظام قاتل، وكان الأولى بها الاعتذار للشعب السوري بدلا من اللجوء إلى الرمزية التي لا تمحو خطيئة تلميعها للطغاة.

العجيب أن المجلة لم تعتذر عن تمجيد النظام السوري بينما قدمت لاحقا اعتذار صريحا عن أخطائها بحق السود في أمريكا، وأكدت مسؤوليتها عن نشر محتوى مؤذٍ لمشاعرهم ، وأمام مأساة سوريا التي قَتل فيها النظام مئات الآلاف، وشرّد عشرات الملايين لم تقدم اعتذارا عن تضليلها للرأي العام ودعمها الضمني لجرائم النظام .

تلميع صورة أسماء الأسد وزوجها كان تواطؤا مدفوع أسهم في تبييض جرائم النظام وكشف ازدواجية الغرب الذي لا يعتذر عادة عن أخطائه إلا إذا مست مصالحه، ويتجاهل معاناة الشعوب الأخرى، ويدعم أنظمتها القمعية طالما أن ذلك يخدم مصالحه السياسية والاقتصادية.

أسماء الأسد لم تكن “وردة في الصحراء”، بل شريكة في نظام دموي قمعي والمجلات التي تواطأت معها ولمعتها ستظل تحمل وصمة العار في جبينها إلى الأبد.
وسوريا التي فرّ منها أسدها الضاري الجبان في جنح الظلام كاللص الخائف من العدالة ليست الإسكندرية التي خسرها مارك أنتوني، وسقوط نظامه لم يكن، بسبب “خذلان الآلهة”، كما تود إقناعنا بذلك الكاتبة “الشبيحة” بل كان نتيجة إرادة الشعب التي تفوق أكاذيب الطغاة وحملات تلميعها الكاذبة.

القصة تتجاوز مجرد مجلة تبيع الوهم على السوريين مقابل المال، بل تكشف عن نهج خطير للإعلام الغربي في التعامل مع الأنظمة العربية القمعية، حيث يزيف المال والنفوذ الحقائق، ويحّول القتلة الجبناء المجرمين إلى أبطال عظماء، ويترك ضحاياهم بلا صوت، ملقين بالأكوام على قارعة الطريق.

وتسويق القتلة كرموز للنزاهة والشهامة والبطولة، ورموز للنقاء والصفاء والضياء، كما وصفت المجلة أسماء الأسد بـ”عنصر الضياء”، بينما كانت تتجول في قصور دمشق مع زوجها قاتل الأطفال والنساء، وبلادها تغرق في الحصار والجوع والدمار.

وقد يظن البعض أن خطأ مجلة “فوغ” كان مجرد خطأ عابر، ولكن الحقيقة هي أن تلميع أسماء الأسد لم يكن عفويا، بل كان قرارا واعيا لتقديمها كرمز لـ”الأناقة الإنسانية”، رغم معرفة الجميع بجرائم النظام الذي تمثله. وما يزيد من قوة الألم هو غياب الاعتذار، فبدلا من الاعتراف بالخطأ، اختارت المجلة الصمت، وكأن ما يحدث في سوريا لا يعنيها.

مأساة الشعب السوري تبرز أهمية أن يتحمل الإعلام مسؤوليته الأخلاقية تجاه الحقيقة، فالصحافة ليست مجرد وسيلة لنقل الأخبار فحسب، بل هي قوة فاعلة في تشكيل الرأي العام. وعندما تُستخدم لتلميع المجرمين، فإنها تتحول إلى شريك في جرائمهم.

وسوريا اليوم تجسد مآسي القرن الواحد والعشرين، ومرآة تكشف زيف الإعلام الغربي الكاذب الذي يضع مصالحه فوق دماء الأبرياء، وسيأتي اليوم الذي يحاكم فيه التاريخ الطغاة، وكل من صفق لهم من السياسيين والإعلاميين وكتّاب رأي الذين باعوا أقلامهم بثمن بخس للشياطين.

وأسماء الأسد التي زُيفت كـ”وردة في الصحراء”، لم تكن سوى شريكة في نظام قمعي غارق في الدماء والدمار. ومع هروب بشار الأسد بعد أن نهب ثروات وطنه وتركه غارقا في الخراب والديون والفوضى، تلاشت الأكاذيب التي نسجها الإعلام الغربي المأجور، ليبقى إرثهما الملطخ بدماء شهدائنا الأبرار شاهدًا حيا على فظائعهما، وعصيا على محاولات التجميل والنسيان.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى