الاتجاهات المعاكسة لجاذبية الظلام

الاتجاهات المعاكسة لجاذبية الظلام
الجاذبية التي تكمن داخل رمزية الظلام ، هي في الواقع تشي بالكثير من الساحريةرغم الغموض الذي يكتنفها، إلا أنّ راحة الظل يمكن أن تتمدد حتى تصيبنا باكتشاف جمال الذات ووسامة الباطن.
بالتأكيد تلك الوسامة في العُتْمة لا تخلو من الاستبطان؛ لأن الكثير من الناس يفضل السكون ويبحث عن الهدوء ويجد راحته في ظل جو يناجي فيه أعماق النفس.
هذا التأمل الباطني الذي يمارسه البعض الهدف من ورائه مطالعة النفس ، وملاحظة الحالة العقلية، وفحص الروح ، والتمركز الدقيق حول فهمها أكثر، والإدراك المباشر للمشاعر والخبرات والانفعالات، وكأنه يصنع لنفسه لوحة قماشية للتفكير بعمق وتشويق؛ أي تعمّد الملاحظة الصريحة لوصف الحالة ثم القيام بتسجيلها تمهيدًا لتحليلها.
قد لايستوعب بعض القراء هذا النوع من التحليل النفسي لمجموعة أعماق النفس؛ لكن بطبيعة الحال هذا النص يحاول بعمق تبصير الآخرين بالهدف الذي من أجله يذهب الناس إلى تلك الأماكن ذات الظلال الخافتة التي تتسلل فيها الإضاءة ؛ لا ضوء الشمس! بطريقة هادئة لتنكسر تلك الأشعة فتعطي منظرًا سائغًا يجلب للفكر السكون والإنتاجية.
عادة مايلجأ الناس للأماكن المظلمة ، أو ذات الأضواء الخافتة لشعورهم بالرغبة في تأويل تواجدهم ، هذا يشعرهم برمزية التعبير ، تلك الرمزية تشعرهم بالتشويق كوسيلة من وسائل الغموض الآسر للأفكار ، لكنها تبقى مشروعًا للتعبير الرمزي يتم التعبير عنها أحيانًا بالخوف. وتارة بالتوجس، وأوقات بالترقب، ومرات يبقى الظلام حافزًا للتحول، والنمو ! أعني به التحول للشجاعة والقوة والانفصال عن الخوف ، والنمو الشخصي.
ثمة أمور كثيرة تتوازن معها الحالة المزاجية وتنقل المعاني الخفية من طور الإحساس إلى الشعور العميق بأن العيش في الظل أمر مثير للتأمل وتحفيز المشاعر.
على مر التاريخ كان فنانو المسرح والأدب والقصة والرواية يعشقون هاتيك الأماكن التي تكتسي عادة بلون الظلال (بتشديد الظاء وكسرها) ، لها طابعها الخاص ، طابع يتماهى في استقراء الأحداث والمواقف ويساعد في التفكير والكتابة بصورة أوسع.
إلى هنا والأمور قد تبدو بخير !! أقول قد تبدو ! لأنه لطالما ارتبط ظلام الليل بالهدوء وارتبط الهدوء بتلك الأماكن فتكون مستهدفًا للبعض يذهب إليها بقصد تجاوز السطوع والدخول في أعماق العواطف، وإطلاق الخيال حتى يسمح بملء الثغرات بتفسيرنا وأيضا بتخيلاتنا ، إنه يشجع على إشعال الفضول وكشف الألغاز الكامنة ويدفعنا للبحث عن الإجابات والتجارب غير المتوقعة، أقصد فيها تجاربنا المتنوعة طوال اليوم وتلبية احتياجاتنا من الانسجام والاسترخاء والتشافي وترميم العواطف المنكسرة.
لاشك أنّ الظل والهدوء لهما القدرة على تعزيز الحواس، تلك القدرة تسمح لنا أن ندرك العالم بطريقة مختلفة خذ معك مثالاً لأماكن هادئة غير المقاهي ذات الزجاج القاتم، اجلب خيالك قليلاً وضع نفسك كأنك تجلس على شاطئ مقمر، وصوت الأمواج يخترق وجدانك خاصة إذا هبّ النسيم واستنشقت رائحة البحر هذا إحساس مرتفع يدفعك أن تنغمس في الوقت واللحظة الحاضرة إلى شعور أكبر هو اكتشاف الذات.
إنَّ ما يثار هنا اليوم يعاكس هذاك المضمون الآسر للظل ، ويناقض رمزية الضوء الساقط ، ويخالف همس السكون الجارف.
لقد انتشرت خلال السنوات الماضية فكرة المقاهي المغلقة ، أو صالات المشروبات الساخنة ، والباردة ، أو كما يسميها البعض( الكوفي) التي تقدم الترفيه للجميع، تحتضنهم ليل نهار ، ويمضون فيها أغلب أوقاتهم، لكن الملاحظ أنها تعمل خلال اليوم بأكمله وتستقبل العملاء من كافة الأعمار ، لا تفرق بين صغير وكبير ، تمتهن العمل التجاري بلا رقيب عليها. وإن وُجد المراقب فيبقى عمله على استحياء.
إنّ مواقع الجذب التي نتحدث عنها بحاجة إلى تنظيم أكبر؛ لأن الممارسات التي تنبت خلف الزجاج القاتم ، خلف الأضواء الخافتة، تظل غامقة وداكنة، أحيان غير مفهومة.
الغالبية العظمى يذهبون إليها لا للتأمل ولا لاكتشاف الذات ولا لإشعال الفضول ولا إلى التحول والنمو الشخصي ، هم يرتادونها لمجرد اقتياد النفس للخروج! اي أنّ الشخص يقتاد ذاته بلا وعي لتمضية الوقت ، هذا قطعًا في نظرية مصفوفة الوقت يُعدُّ ضياعًا وهدرًا للزمن الذي يفترض أن يتم استثماره بذكاء.
أعلم أن الكثير قد يزعجه هذا النوع من النصوص المكتوبة ، لكنها الحقيقة !! نعم الحقيقة التي يتعين علينا إدراكها والسعي إلى علاجها مع الجهات المانحة لرخص التشغيل بحيث يتم التنسيق مع هيئة الترفيه وجمعية الأدب والأدباء واستقطاب أدباء مؤثرين على الساحة الإعلامية والفنية كشركاء يقومون بنشر ثقافة مغايرة عن هاتيك التي تعيش في أذهان المرتادين. أكثرهم لا يتجاوز عمره الثالثة والعشرين من الجنسين وهذا بطبيعة الحال يفتح باب الاستفهام حول الهدف من السماح لهم بارتياد هذه الأماكن رغم أنهم مازالوا بعيدين عن اكتشاف خصائص النفس.
كما قلت إنّ الأدباء وكتّاب المسرح والشعراء، وكتّاب الرواية والقصص تصفو لهم مثل تلك الأجواء التي يفترض أن يتوفر لهم بها أركان هادئة وأجواء مناسبة للكتابة ، والتأمل ، والتفكير بعمق، فلماذا لا يتم استثمارها لهذا الغرض! نعتقد أنه لو تم تنظيم العمل في تلك الأماكن الهادئة ذات الزجاج المظلم، واستغلال فرصة تدفق الزائرين عليها بنشر ثقافة التواصل مع الأفكار والعواطف وتنمية الشعور باليقظة الذهنية سيكون ذلك معاونًا لفهم فكرة رعاية الذات ، وإيقاف نزيف القيم ، وإيقاظ الذهنية والتأمل الذاتي لتحقيق التوازن النفسي والإنتاجية الفكرية.
انتهى
علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي