(من قمة العطاء إلى هاوية الندم)

محمد الفريدي
(من قمة العطاء إلى هاوية الندم)
كان لدي صديق قضى معظم حياته في السعي وراء المال والشهرة والمناصب والعمل، ومع تقدمه في العمر وتقاعده بدأ يشعر بالوحدة والندم على اللحظات الثمينة التي فاتته في قضاء وقت أطول مع أسرته و تحسين علاقته بأصدقائه، وأصبح ينسى العديد من الأحداث والمناسبات فقررت أنا ومجموعة من الزملاء زيارته في منزله قبل وفاته، وذكرته بأيام الشقاوة والبساطة التي عشناها معا، فقال رحمه الله جملة لا تزال عالقة في ذهني:
“الحياة الحقيقية التي نفتقدها اليوم تكمن في الحب من المحيطين بنا والعلاقات الطيبة مع جميع البشر، لا في المال، ولا المناصب والعمل، ولو عاد بي الزمن لغيرت مسار حياتي، وقضيت وقتا أطول مع عائلتي وأصدقائي، فهذه اللحظات هي التي تبقى عالقة في الذاكرة وما عداها لا يذكرني إلا بالمرارة والندم”.
اعمارنا رحلات داخلية تحمل في طياتها محطات من التجارب، تتفاوت بين الإنجازات والعثرات ، وبين هذه المحطات وتلك المحطات يبقى الندم تَجْرِبَة مشتركة لكنه ليس حلا نهائيا.
فالندم مهما كان عميقا لا يغير الماضي، ولا يصحح الخطأ، وإنما يثقل النفس ويضاعف الألم. لذلك بدلا من الغرق في دوامة الندم يتحتم علينا استثمار هذه المشاعر في مراجعة الذات والسعي نحو تصحيح مسارنا.
ان الحياة تقدم دروسها لنا بطرق مختلفة، منها على سبيل المثال ان العمر ليس متاحا للجميع بالتساوي. فهناك من رحل منا في ريعان شبابه، وآخرون امتدت اعمارهم لتتجاوز السبعين او حتى المئة، ومع هذا الامتداد تظهر تحديات جديدة، مرتبطة بالصحة الجسدية والذهنية. فالاعتلال قد يطول الجسد او يؤثر على مداركنا العقلية، ليواجه الإنسان حالة من التراجع في الذاكرة او القدرة على التفكير. وهذه بالتأكيد ضريبة التقدم في العمر التي لا مفر منها.
الغفلة عن هذه الحقائق في مراحل شبابنا نعمة إلهية، فلو أدركنا مبكرا مصيرنا المحتوم بكل تفاصيل هذه اللحظات لفترت همتنا وانطفأت حيويتنا.
وهذه الغفلة هي من منحتنا في سن الشباب حافزا للإبداع والعمل، وأسهمت في استمرار عجلة تطور ونهضة مجتمعنا.
غير ان مواجهة أخطاء الماضي تتطلب شجاعة مختلفة، فالاعتراف بالخطأ هو بداية التصالح مع الذات ومع الآخرين. والخطأ مهما كان بسيطا او كبيرا يصحح بالاعتذار ورد الحقوق لأصحابها، بينما الخطيئة التي تحمل ضررا أكبر على الآخرين تحتاج الى توبة أعمق وجهد أكبر للتكفير عنها.
اما الكذب فهو احد اخطر افاتنا التي قد تتفاوت بين خطأ بسيط وخطيئة عظيمة حسب اثرها على الافراد والمجتمع، ومع تقدم اعمارنا لا يجب ان يبقى اللوم او الرغبة في الانتقام حاضرين في انفسنا ابدا، بل يتعين ان يكون العفو والمسامحة جزءا من الحكمة التي تصاحب شيخوختنا.
والعفو عند المقدرة ليس مجرد فضيلة و لا ضعف، بل هو مفتاح للسلام الداخلي مع انفسنا وسبيل لنيل رضا الله الذي يقبل التوبة من عباده، ويغفر خطاياهم ما داموا مخلصين في طلب العفو.
وعلى اعتاب السبعين اجدني اتأمل هذه الدروس، واستحضر قيمة العمل والعطاء الذي يحتفي به اليوم زملاؤنا الذين لا يزالون على رأس العمل، ولا يعد احتفالا بالنسبة لنا، بل هو فرصة لنذكر انفسنا باهمية الانتاج والانجاز في منح الحياة معناها الحقيقي، واحمدوا الله على نعمة طهارة القلب، فبعضنا متقاعد منذ ربع قرن أو يزيد وما زال يعض على الماضي اصابع الندم.
مع تقدم الزمن نكتشف ان الحياة ليست مجرد سلسلة من الاحداث، بل مجموعة من الفرص والعلاقات البسيطة والنمو الفكري والضحك والسعادة غير المصطنعة مع رفاق العمر برغم كل ما نواجهه من تحديات والم.
ان التأمل في مسار حياتنا يكشف لنا عن دروس عميقة لا يمكن ان نراها الا عندما نمر بتجارب خاصة، فكل خطوة كنا نخطوها، وكل خطأ كنا نرتكبه يحملان بين طياتهما فرصا لتصحيح مسارنا وتقوية ارادتنا وتجاوز اثار الندامة والالم.
العمر، بكل ما يخبئه من مفاجآت، علمنا أن الحياة لا تمنحنا دائمًا ما نريد، لكنها تقدم لنا كل ما نحتاجه للنمو والارتقاء. وكل لحظة عشناها، سواء كانت مليئة بالفرح أو الحزن، كانت فرصة لتطوير أنفسنا واكتشاف قوتنا الداخلية، وبها واجهنا تحديات الحياة وتغلبنا عليها.
وفي مراحلنا المتقدمة اصبحنا ندرك اهمية كل لحظة في حياتنا، واصبح العطاء والعمل المثمر مصدر سلامنا الداخلي، وليس فقط وسيلة لتحقيق النجاح الوهمي أو البروز الاجتماعي في كل مكان.
وفي هذه المسيرة الطويلة تظل علاقتنا مع الله هي الاساس الذي يمدنا بالقوة والطمأنينة. فالتوبة والاعتراف بالخطأ وطلب العفو والمغفرة ليست مجرد اجراءات دينية، بل هي مفاتيح أيضا للتحرر من عبء الندم واللوم والعودة الى نقائنا الداخلي.
بدأنا ندرك مع تقدمنا في السن ان التسامح هو احد اعظم الفضائل التي يمكن ان يتحلى بها الانسان في مرحلة الشيخوخة، ففيها نجد السلام مع انفسنا ومع الاخرين، وفيها تتحقق حكمة الحياة التي تُعلمنا ان نعيش في سلام داخلي مع انفسنا بعيدا عن الاحقاد والضغائن التي جلبها لنا التنافس على المناصب والعمل وجمع المال بأي ثمن .
فما يميز الانسان عن سائر الكائنات الحية هو قدرته على التعلم من اخطائه والارتقاء فوق جراحه التي يسببها الزمن، ومع كل يوم يمر ندرك ان الحياة ليست مقياسا للمدة التي نعيشها، بل للكيفية التي نعيش بها تلك المدة المحددة لنا ، ومدى قدرتنا على العطاء والمغفرة في سلام داخلي لمدد اطول من اعمارنا بكثير.
مع مرور الوقت اصبحنا اكثر وعيا بقيمة اللحظات التي نعيشها، واصبحنا ندرك ان العمر ليس مجرد عمر بيولوجي ينتهي بموت الجسد ، بل هو تَجْرِبَة روحية وفكرية تنمو مع تقدمنا في السن، وتأتي اللحظات العميقة التي نتحمل فيها المسؤولية عن قراراتنا وافعالنا الماضية كقمة للسعادة والرضا، ومن خلال الحكمة التي تكتسبها ذواتنا نرى في تلك اللحظات فرصا للتعلم والنمو مهما بلغنا من العمر والعلم والمعرفة.
ان حياتنا في جوهرها رحلة مستمرة من الفهم العميق لذاتنا وللعالم من حولنا، ومن خلال التسامح والمغفرة نستطيع ان نطهر انفسنا من تراكمات الالم واخطائنا الماضية، ونتخلص من عبء الذكريات المؤلمة، ونعيد بناء انفسنا على ضوء ما نراه من القيم السامية.
المهم والأهم هو تقديرنا لكل لحظة وتجربة، ولكل شخص مر في حياتنا، وغادرنا بصخب أو بهدوء فاعمارنا تُقاس بقدرتنا على عيش حياة مليئة بالمعاني والعطاء والمغفرة، وعندما نقترب من رحلة الوداع ، يجب أن ننظر إلى الماضي بسلام داخلي ومحبة، فالحياة، بتحدياتها وأفراحها وآلامها، رحلة من أخطائنا التي حولناها إلى الأفضل قبل أن نصبح مجرد ذكرى.
كاتب رأي
أ. محمد سلمت وسلم قلمك الذي لايكتب إلادرراً ، زادك الله من فضله ونفع بعلمك .
الأستاذة الفاضلة سلامة ..
شكرا لكِ على كلماتكِ الطيبة التي أثلجت صدري، وأتمنى أن أكون دوما عند حسن ظنكم.
أسأل الله أن يوفقنا جميعا لما فيه خير العباد والبلاد. وتقبلي فائق تحياتي واحترامي.
أبو سلطان
رئيس تحرير الصحيفة وكاتبها المبدع الأستاذ محمد الفريدي
اختيارك لهذا الموضوع الجميل جاء في وقته👍
فهذا المقال الرائع يحوي رؤية عميقة وواقعية عن نعمة العائلة والأصدقاء في مرحلة الشباب ، وكيف أنها تساهم في دفعنا نحو الإبداع والطموح دون أن تثقل كاهلنا بتفاصيل العمل . بالفعل ، هي حكمة إلهية أن نعيش هذه اللحظات بلا وعي كامل بمصيرنا ، كي نتمكن من تحقيق ما نطمح إليه .
شكراً لك أستاذ محمد على هذه التأملات الرائعة التي تفتح أمامنا أفقا جديدا لفهم مرحلة الشباب وتداركه قبل فوات الأوان ، وكيفية استثمار أوقاتنا بالتوازن مابين مسؤلياتنا العائلية وبين بناء المستقبل👍
ومرة أخرى شكرا جزيلا لك على اختيار هذا الموضوع وعلى إثراءنا وإثراء قراء الصحيفة بهذا الموضوع الثري👍 .
الأستاذة الفاضلة ابتسام الجبرين مديرة التحرير المتميزة..تحية تقدير واحترام وبعد:
أشكركِ جزيل آلشكر على كلماتكِ الراقية التي أضفتِ بها عمقا وإشراقا على ما كتبته.
واختيار الموضوع جاء من وحي تأملات نعيشها جميعا، ومحاولات لفهم الحياة وما تحمله من توازنات دقيقة بين العائلة، والأصدقاء، والطموحات، والمسؤوليات.
رؤيتكِ الثاقبة حول المقال أضافت بُعدا جديدا ، وأسعدني أن ما كتبته لاقى صدى عميقا لديكِ، وهذا بحد ذاته وسام أعتز به.
كل الشكر والتقدير لإثرائكِ الصحيفة ولنا جميعا، متمنيا لكِ دوام التألق والإبداع.
أخوكِ/ محمد الفريدي
تأملات عميقة وذات حكمة وواقعية
ما أجمل هذا السرد الذي يخاطب الروح والعقل
تحيَة لقلمك المبدع 🌹
الأستاذة الكريمة نعيمة..
شكرا جزيلا على كلماتك الراقية التي تنم عن ذوق رفيع، وسعيد جدا أن ما كتبته قد لامس الروح والعقل، فهذا هو الغاية الأسمى لكل كتابة تحمل الصدق في طياتها.
تحياتي وتقديري لقلمك المبدع وفكرك المشرق.
أبو سلطان
مقالة تحمل في طياتها حكمة ومعاني تؤخذ بعين الاعتبار
شكراً لقلمك المبدع
شكرا لك على كلماتك الجميلة، و أسعدني أن المقالة نالت استحسانك، وأتمنى دائما أن أقدم ما يلامس الفكر والقلب، وتقبل تحياتي وتقديري.
أبو سلطان