غزة تباد و الـ “UN”توثق المأساة

محمد الفريدي
غزة تباد و الـ “UN”توثق المأساة
هناك دروس نستخلصها من التاريخ، وأهمها أن الحقوق لا تُمنح بقرارات تُكتب في القاعات الفاخرة، ولا تُستعاد بتوصيات من مؤسسات دولية، بل تفرضها إرادة الشعوب. فالأمم المتحدة، بكل هياكلها ومواثيقها، ليست سوى مرآة تعكس موازين القوى في هذا العالم المتوحش، حيث تتحرك القوانين عندما تتوافق مع مصالح الدول الكبرى، وتتجمد حين تهدد نفوذها.
في فلسطين، كما هو الحال في أي قضية عادلة، يدرك أصحاب الحق أن انتظار الإنصاف من الأمم المتحدة يشبه انتظار المطر من غيمة ورقية. لقد رأينا كيف تسارع المؤسسات الدولية للتدخل عندما يكون الهدف حماية نفوذ أو تأمين موارد، بينما تكتفي بإحصاء القتلى وإبداء القلق عندما يكون الضحايا من المستضعفين. رأينا كيف تتحول “السيادة الوطنية” إلى ذريعة تمنع التدخل لإنقاذ الشعوب المضطهدة على الهواء مباشرة، لكنها تُنسى تماما عندما يحين وقت التدخل لصالح القوى العظمى.
أمام هذا الواقع الأليم، يبقى السؤال مطروحا : هل يمكن لمنظمة تقف عاجزة أمام الجرائم المستمرة في فلسطين، ولم تستطع تطبيق قراراتها التي أُصدرت منذ عشرات السنين، أن تكون بالفعل حامية للعدالة والسلام؟ أم أنها مجرد أداة تُستخدم لتبرير سياسات الهيمنة وإضفاء الشرعية على الظلم؟
في النهاية، الشعوب التي تناضل من أجل حقوقها لا تحتاج إلى اعتراف أممي لتثبت عدالتها، فهي تدرك حقيقتها، وتعرف من يدافع عنها ومن يتاجر بمأساتها. والتاريخ يخبرنا أن المصير لا تحدده المؤتمرات، ولا البيانات، بل تصنعه الشعوب التي ترفض أن تُهزم، وتنهض رغم كل شيء، لتؤكد أن القضايا العادلة لا تسقط بالتقادم، حتى وإن أدر العالم ظهره لها، ووقف في صف المحتل الذي يسوم أهل الأرض الأصليين سوء العذاب.
ففي غزة ﻭ الضفة الغربية تحديدا نماذج صارخة تتجلى بأوضح صورها لعجز الأمم المتحدة في كل زمان ومكان، فقد صدرت مئات القرارات الدولية التي تؤكد حق الفلسطينيين في أرضهم، وتدين الاحتلال وجرائمه، لكن أيًّا منها لم يجد طريقه للتنفيذ. وفي المقابل، عندما تريد القوى العظمى فرض عقوبات أو تغيير أنظمة، تتحرك الأمم المتحدة بسرعة البرق لفرض إرادتها، وكأن قانونها الدولي وُجد فقط لخدمة الأقوياء.
في غزة، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني تحت حصار خانق منذ سنوات، محرومين من أبسط مقومات الحياة ثم يأتي الجيش المحتل الجبان مدجج بالسلاح و يبيدهم أمام مراى من العالم ، بينما تكتفي الأمم المتحدة بإصدار تقارير تحصي عدد الأطفال الذين قُتلوا والبيوت التي دُمّرت، والخدج الذين قطعت أوصالهم دون تحرك جاد لإنهاء معاناتهم. أما في الضفة الغربية، فتتوسع المستوطنات بشكل مستمر، ويُحرم الفلسطينيون من حقوقهم أمام عين العالم، ويُسمح للمستوطنين بقتل الفلسطينيين ونهب بيوتهم ومزارعهم وأراضيهم، فلا نجد من الأمم المتحدة سوى بيانات “القلق العميق”، التي لم تمنع جرافة واحدة من هدم منزل، أو جنديا من اعتقال أو قتل طفل لم يبلغ العاشرة من عمره .
هذه المنظمة منظمة “القلق العميق” عندما ننظر إلى دورها في حل أزماتنا في الوطن العربي، نجد أنها أشبه بمن يهرع لإنقاذ غريق في كوكب زحل التقط له المسبار صورة، وهو يصارع السيول بينما كان يمر من فوق سماء العراق، ومنزله يغرق أمامه على الأرض المجاورة للامم المتحدة.
منظمة مليئة باللجان والجلسات والمبعوثين والتوصيات، ولكنها تبدو، وكأنها وُجدت فقط لتوثيق الكوارث لا لمنعها، ولإحصاء الضحايا لا لحمايتهم.
كوكب الأرض يغرق في الفوضى: حروب لا تنتهي، مجاعات تلتهم الشعوب، أنظمة قمعية تخنق البشر، بينما “العالم المتحضر” يعقد مؤتمراته بربطات عنق أنيقة، ويُصدر بيانات “قلق عميق”، والأمم المتحدة، التي يُفترض أنها وجدت لإنقاذ العالم، تبدو وكأنها تستعد لإنقاذ زحل من السيول التي تداهمه قبل أن تفكر في حل مشاكل الأرض.
في كل أَزْمَة، في فلسطين، يخرج علينا مسؤول أممي بوجه متجهم ليُخبرنا أن “الأمم المتحدة تشعر بالقلق العميق”، وكأن الشعور بالقلق وظيفة مدفوعة الأجر في هذه المنظمة.
وعندما يرتفع منسوب الجريمة ضد أهلنا في غزة والإنسانية، تأتي العقوبات على هيئة “إدانة شديدة اللهجة”، في مشهد يُذكّرنا بغضب الأمهات عندما يهددن أبناءهن دون أي نية حقيقية في العقاب.
خذوا فلسطين كمثال صارخ: منذ عشرات السنين، اجتمع مجلس الأمن مئات المرات، وقُدمت آلاف التقارير، وأُرسلت بعثات السلام، وعُقدت مؤتمرات مدريد وأوسلو وأنابوليس، ومع ذلك، لم تُمنع مجزرة واحدة، ولم تُحمَ مريضة فلسطينية بالسرطان من القتل داخل الطوارئ في المستشفيات.
اللافت أن هذه المنظمة تبدو عاجزة عن فرض أبسط الحلول، لكنها تنشط بفعالية في “إبداء القلق”، و”حث الأطراف”، و”التأكيد على الحاجة إلى الحل السلمي”، وكأن مشكلتنا تكمن في أن أحدا من الأطراف لم يسمع بهذا الكلام الفارغ منها من قبل.
غزة تُقصف وتُحاصر منذ سنوات، فتكتفي الأمم المتحدة برفع التقارير وتحليل أرقام الضحايا.
وفي الضفة الغربية، يُمارس الاحتلال كل أشكال القمع والاستيطان، ونجد البيانات الأممية تعج بمفردات دبلوماسية باهتة مثل “ندعو لضبط النفس”، وكأن العدالة ستتحقق بنصيحة إسرائيل بضبط النفس!
في المقابل، عندما يتعلق الأمر بمشاريع فضائية مثل غزو المريخ، نرى نوعا مختلفا من الحماس.
تتدفق مليارات الدولارات على الأبحاث، وتُعقد شراكات بين الحكومات والشركات الكبرى، بل حتى الأمم المتحدة نفسها تطلق مبادرات حول “التعاون الفضائي المستدام”.
هذه المنظمة العجوز عجزت عن تأمين ممر إنساني واحد لغزة، وتستعد في الوقت نفسه لضمان حقوق اللاجئين الذين لجؤوا إلى كوكب المريخ خوفا من اضطهاد صدام حسين لليهود للمرة المليون !!
ألم يكن من الأجدر تطبيق هذه الحماسة على الأرض أولًا؟ لماذا تُترك فلسطين وغزة والضفة الغربية لحفلات الشواء البشري الذي يقوم بها هذا الجيش النازي، والقتل الممنهج والموت البطيء، بينما تُناقش في نيويورك قوانين إدارة المياه فوق سطح المريخ؟
هل كانت حماية الأطفال الفلسطينيين من القصف تتطلب تِقْنِيَّة معقدة كإرسال مركبة فضائية إلى كوكب غير مأهول لتأتي لهم من هناك بخطة تنقذهم من العدوان السافر على كرامتهم وإنسانيتهم من قبل قطعان اليهود الذين يمارسون شعائرهم الهمجية في القتل والتعذيب؟
في نهاية المطاف أقول ، الأمم المتحدة تشبه مكتب بيروقراطيي هائل، يضع لوائح لما ينبغي فعله، ولكنه لا يملك سوى قلم واحد لتوقيع تقارير الإدانة، ولو امتلك القدرة على إصلاح شيء، فقد يبدأ بكوكب المريخ وزحل اللذين لم تطأهما قدم بشرية، ولكن، من يدري؟ فربما تنتظر هذه المنظمة الفلتة حتى تتأهل غزة لمشروع إعادة الإعمار ضمن منظومة إعمار كواكب المجموعة الشمسية، الذي سنُجبر على إعمارها في الخليج بعد أن يدمرها جيش الاحتلال، وهو يبحث عن المجرم الهارب من وجه العدالة السنوار!