سعوديون … بطائفية جديدة

محمد الفريدي
سعوديون … بطائفية جديدة
قبل خمسة وعشرين عاما كتبتُ مقالا بعنوان “نحن طائفيون مودرن”، مُنع من النشر في حينها من قِبل رئيس تحرير إحدى الصحف الورقية، ولا زلت إلى اليوم لا أعرف سببا واضحا لهذا المنع غير التسلط والمزاجية.
في ذلك المقال، كشفت عن الطائفية المتأنقة، الطائفية التي كانت ترتدي ربطات عنق فاخرة وتختبئ خلف لغة التطور والحداثة، ولكنها لا تزال تنبض بالكراهية.
وجوه ناعمة المظهر، متقنة للفصاحة، تتغنى بمفردات “التمدن” و”الدولة المدنية”، ولكنها تحمل طائفية متجذرة لا تختلف عن خطابات الكراهية الصارخة في أزقتنا الخلفية.
مرت السنوات، ورغم ذلك لم تتغير ملامح تلك الطائفية “المودرن” كثيرا، فقد استبدلت الشعارات الطائفية الهمجية بشعارات طائفية مهذبة، وتكيّفت مع المرحلة، فبدلا من الصراخ العلني، أصبحت تمارس الإقصاء بنبرة باردة.
المؤتمرات تُعقد، والمقالات تُكتب، والحملات الإعلامية تُطلق عن التعددية والتعايش، لكن في الواقع، تمرّ الاختيارات في التوظيف، والتمثيل، ومنح الفرص من تحت طاولات الطائفية.
طائفية جديدة من نوع خاص، تضع ساقا في المستقبل، وأخرى غاطسة في أوحال التاريخ.
تحتفل بالتنوع في العلن، وتتوجس من “الآخر” في الخفاء.
تحاضر في التنوير، وتدير المؤسسات التي تتولاها بعقلية طائفية.
تستنكر الفرز الطائفي، وتمارسه بأدوات أكثر تهذيبا، وأشد خفاء.
وفي الحقيقة، الطائفية لم تختفِ منذ ذلك اليوم إلى الآن، بل صارت أكثر أناقة، وأقل صخبا.
تمارس “التطييف” عبر النفي الهادئ، والإقصاء المحسوب، والفرص المتفاوتة.
صار الطائفي لا يصرّح، بل يلمّح، ولا يصرخ، بل يبتسم، لكنه لا يزال يحمل المعيار نفسه: “ابن طائفتي أولى، وأجدر، وأضمن”.
اليوم، ونحن نعيش في المملكة مشروعا وطنيا كبيرا يسعى لتجاوز الانتماءات الضيقة وبناء وطن يعلو فيه صوت المواطنة على كل الأصوات، لا بد من الانتباه لهذا الشكل الجديد من الطائفية، الذي يتخفى خلف الأقنعة الأنيقة المزيفة .
إن الطائفية الجديدة لا تصرخ، بل تهمس، ولا ترفع السلاح، بل ترفع الميكروفون، ولا تبني المتاريس، بل تكتب المقالات. لكنها، في النهاية، تسهم في تقسيم الوطن إلى جماعات، والمجتمع والوطن إلى خانات وكانتونات صغيرة .
هذه الطائفية، بغض النظر عن لباسها أو خطابها، تفرّق بين المواطنين وتزنهم بميزان الطائفية لا بميزان المواطنة والكفاءة.
المملكة، بحكمتها، تدرك أن التنمية والنهضة لا تتحقق إلا عندما تكون المواطنة هي البوصلة الحقيقيّة ، والعدالة هي المعيار.
وفي سياق هذا التحديث، لا بد من أن نكون صادقين في مواجهتها.
إن أخطر ما تواجهه أي أمة حين تخوض معركة التحديث هو أن تُسدل ستار التجميل على قبحٍ قديم وتظن أنها غيّرته.
الطائفية لا تتلاشى ابدا إلا بالمكاشفة، وبوضع المرايا أمام من يحاول طلاء وجهه بلون الاعتدال وقلبه يضخ السمّ الطائفي في كل الاتجاهات.
ما زلتُ أؤمن، بعد كل هذه السنوات، أن الطائفية ليست قضية “دينية” بحتة، بل هي مرض اجتماعي، واستثمار خارجي، وورقة خاسرة تُستخدم لتأخير مشروعات النهضة في أي بلد.
لا معنى لأي تحديث لا يُصاحبه حراك حقيقي لتفكيك بنية الطائفية، سواء على مستوى الخطاب الديني والإعلامي أو في تفاصيل القرارات اليومية، أو في الفرص، وفي الحقوق، والتمثيل.
الطائفيون المودرن من الطرفين اليوم يلبسون أجمل ما عندهم، لكن قلوبهم تفضحهم، ومعركتنا ليست مع ربطات العنق الأنيقة، بل مع ما تحتها من نوايا.
إن التحدي الأكبر أمام المملكة هو أن نصل إلى مرحلة يكون فيها الولاء خالصا للوطن، ويتجاوز فيها المواطنون كل أشكال الطائفية
فالمملكة التي تقود مشروعا طموحا للإصلاح والانفتاح لا يمكن أن تحقق رؤيتها الكاملة دون أن تجتث هذه البنية الطائفية، سواء كانت مغطاة بربطات عنق أو عمائم وقمصان سوداء.
الطائفية خطر على التنمية، وعلى العدالة، وعلى النسيج الوطني، ولا يمكن الحديث عن التقدم في المملكة ولا يزال بعضنا يُمنح الفرص لا لأنه أكفأ، بل لأنه “من جماعتنا”.
الرؤية تتطلب عدالة حقيقية، والعدالة لا تتحقق بقرارات فقط، بل بثقافة.
ثقافة ترى الإنسان أولًا، لا المذهب.
ثقافة تحرر العقل من خطاب الكراهية، وتحرر القلب من وساوس التفرقة.
إن الطائفية لن تزول بالشعارات التي نرفعها، بل بالمواقف الحقيقية.
فلا يكفي أن نقول “كلنا واحد ودربنا واحد”، ونحن نهمس في مجالسنا: “هذا أصله كذا”، و”هذا مذهبه كذا”.
لا يكفي أن ننتقد الطائفية في الإعلام، ونُمارسها في المجالس الخاصة، والوظائف، والمناسبات.
السعودية الجديدة، برؤيتها الطموحة، تحتاج إلى تطهير داخلي لا يُقاس بإزالة البناء العمراني ثم إعادة إعمارِه مرة أخرى، بل بهدم الطائفية في نفوس الجميع، وإعادة بناء الإنسان السعودي من جديد.
الهوية الوطنية لا تكتمل إلا حين يُصبح الانتماء للوطن فوق الانتماء للطائفة، وحين يكون المواطن ابن هذا التراب، لا ابن هذا المذهب أو ذاك.
عند ذلك، لا فرق إن كان الطائفي يرتدي عمامة سوداء أو ربطة عنق فاخرة، ما دام الرأس الذي فوقهما لا يرى في الآخر تهديدا، فالحل ليس في تغيير الملابس فحسب، بل في تنقية القلوب، وتصويب البوصلة الأخلاقية نحو الإنسان، لا نحو الهوية الفرعية.
مقال جميل يعطيك العافية يا استاذ محمد ويقدم رؤية مثيرة للتفكير حول الانتماء للوطن
أشكرك أستاذتنا الفاضل محمد على روحك الوطنية الكبيرة، وعلى مناقشة هذا الموضوع وغيره من المواضيع والقضايا الاجتماعية والثقافية، التي قد تؤثر بشكل سلبي على عجلة النمو والتطور في بلدنا الغالي. لا أعتقد شخصياً، أن هناك في مجتمعنا، ولله الحمد، طائفية قد تؤثر على وحدة الوطن ونسيجه الاجتماعي والثقافي. فليس لدينا أقليات قومية وعرقية متناحرة وتتحيز إلى أفرادها على حساب أوطانها كما هو حاصل في بعض الدول العربية من حولنا. ولكني أتفق معك بأن هناك عنصرية على أساس العرق (فلان أصله من …) وعلى أساس القبيلة والعائلة (إبني وأبناء عائلتي وقبليتي هم أولى بالفرص الوظيفية والتجارية و …). وقد يكون هناك أيضاً تعصب مذهبي ولكنه محدود عند بعض الأفراد والجماعات. فالتسامح وتقبل الآخرين والتعايش معهم واضح بصورة كبيرة في مجتمعنا ولله الحمد. وكم ذكرت استاذ محمد، يجب أن يكون هناك أنظمة وقوانين، تمنع وتراقب جميع أشكال العنصرية، ويجب أن يكون هناك توعية، في كافة وسائل التعليم والإعلام، بأهمية الانتماء للوطن أكثر من أي شيء أخر، والولاء لقيادته الحكيمة والراشدة فقط. كما يجب أن تكون الفرص بجميع أشكالها متاحة للجميع، وأن يكون عنوان الاستحقاق هو: “من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”.