وجدُ النفسِ، وحنينُ الأمس

بقلم الكاتب/ أحمد السالم الشنقيطي
ها أنا واقفٌ على وادي العقيق آنسُ بالبدرِ ونسمةِ الربيع، وجوقةُ الغربانِ قد أخذت بالنعيق، أتراها تأنسُ معي؟
ما ضرَّ لو غرَّد الزريابُ بدلًا من نعيقهم؟ أعلمُ أن طائر الزرياب لا يستطيبُ التغريدَ في ليلةٍ كهذه. لا أدري، أَقلبُه أقسى من الصخرةِ التي أقفُ عليها، أم أن الليلَ يعني له ما كان يعنيه لي في صِغري؛ إنفلاتُ الوحوشِ والأشباح، وانتشارُ الشرِّ في عروقِ الأرض؟ أواه! لو كان خالدًا وافيًا بميعاده، لما سامرتُ البدرَ سمرةً جافّةً ليس فيها من حنينِ العواطفِ شيء. ليست أول مرةٍ يستعيرُ فيها عودي ويواعدني بموعدٍ ثم يُخلفُه. له شركاء في خُلفَة الوعد قبله..بسمة. تعاهدنا أن يتخذ بعضنا بعضًا حليلًا في أجلٍ مسمًّى، واليومَ اتخذت غيري حليلًا. ما أكلمني هذا، إنما يعزُّ عليّ تقبّله. وما بي كُفرٌ بالأقدارِ، ولكن هو الفؤادُ وما يسعُ، وخُلفَة الميعادِ لا يتسعُ لها قلبي على وسعه.
بسمة… كم من ليالٍ قضيناها نتلو سِيَرَ الحُب العذري، ونرتّل فيها تراتيل الغرام. لله البدرُ، كم من ليلةٍ سمعَ أشجانَ حنيني! ولله عودي، كم أضنته أحزانُ فراقها، حتى خُيّلَ إليّ أنه قال: “يا صاحِ، أَصْحُ، إنها لا تخرج من صِنفِ الأشياء، وكلُّ شيءٍ مصيرُه للزوال.”
إنها ليست شيئًا، يا عودي، بل أسمى من كل الأشياء. خُلقت من لا شيء، فكيفَ يكونُ المخلوقُ من لا شيءٍ شيئًا؟ خُلقت بين الكافِ والنون، وهذا أصلُها؛ لا كأصلِ البشر، طينٌ وماء، ولكن جُمعت فيها أسمى ما خُلقَ من الأشياء والصفات… الجمالُ والرحمة..العطف
الجمالُ والرحمة.
لكن، يا عودي، تفرّقت الخُطى، كما تفرقتْ دموعُ العشاق على أهدابِ ليلٍ طويل. آهٍ من هذا الليل! ما أطول ساعاتِه، وما أبطأ ثوانيه حين يُحاصركَ الفقد. قد كنتُ أظنّ أنني إذا ما سامرتُ البدرَ سأخفف عن قلبي أثقاله، لكنّه جالسني على غير عهدٍ، هادئًا، ساكنًا، كأنما يرى كلَّ شيءٍ ويفهم كلّ حزنٍ، ثم يكتفي بالصمت.
يا بدر… أسمعتَ آهاتي؟ أراك تطوفُ حولَ الأرضِ، تُضيء بيوتَ العشاق وتراقبُهم وهم ينشدون الأمنياتِ تحت ضوئك. ما كان ضوؤك لينيرَ حُلكة ليلي، ولا كلماتُ العزاء تُعيدُ بسمة. فإن كان الجمال قد خُلق ليفنى، فكيف أسألُه أن يمكثَ في داري؟ وإن كانت الرحمةُ مطبوعةً على قلبِ بسمة، فقد كُتِبَ عليّ ألّا أرى غير ظلِّها وهو يتلاشى بين جنباتِ العمر، ويمنعني نوالَ عطفها.
غريبٌ هذا العمر… كقطارٍ يمرُّ بمحطاتِ الذكرى سريعًا، لا ينتظرُ أحدًا. تمرُّ الأيامُ بي، كما تمرُّ بي الأحلامُ التي لم أستيقظْ منها إلا على واقعٍ قاسٍ. لكنّي أقفُ هنا، على وادي العقيق، فلا زلت أرى البدرَ شاهدًا على ما مضى. وأسمعُ صوتَ عودي يئنُّ بين يديَّ، يسألني أن أُعفيه من أحمال الحزن، فأجبتُه: “يا عودي، لعلّ الغد يحملُ في طياته ما يُطفئُ هذا الجمر. لعلّ اللقاءَ الذي ظننتهُ مستحيلًا، يعود في زمنٍ لم نحسبه. ولعلّ في قلبِ بسمةِ ظلًّا صغيرًا من ذلك الحب، يُبعثُ من جديد.
لكنّي أعلم، يا عودي، أنّ ما ذهبَ لن يعود، وأنّ ما انكسرَ لا يُجبره الزمن. إنّما هي الأمنية التي تعيشُ في القلوبِ المُحطمة، ولا حيلة لهذا الخافق المكلوم سوى الانتظار.
لكن إلى متى الانتظار؟ إلى متى سأبقى أسيرَ هذا الوهم الذي أحيتهُ الذكريات؟
، إنّ لحنَك الذي كنتُ أظنُّه دواءً للجراح أصبحَ اليوم جرحًا آخر، يفتحُ ما حاولَ الزمان إغلاقه. كلُّ وترٍ فيكَ يسعّر ذكرى، وكلّ نغمةٍ تحملُ بين طياتها حزنَ الفراقِ، فلا تكادُ أن تخرجَ من قصعتكَ حتى تنغرسَ في قلبي.
ولربّما كان في صوتِك يا عودي عتابٌ لي، عتابٌ على هذا التعلّق الذي ما قويتُ على تركه.
فكأنك تقول لي: “ألا ترى يا صاحبي أنَّك تحيا بين أطلالِ الأمل؟ ألا ترى أنّ الأيامَ قد مضت بها كما تمضي الرياحُ بأوراقِ الخريف؟” أجل، أعلم هذا. أعلم أنني أحيا بين ظلالِ ما كان، لكن ما السبيلُ إلى الفكاك؟ كيف لي أن أُقنعَ القلبَ أن ما كان أمسَ، لن يعودَ غدًا؟
يا عودي، ويا بدرُ، ويا وادي العقيق، كلكم شهودٌ على حُبٍّ ظننته خالدًا، وكلكم تعلمون كم من الليالي مرّت ولم أجد فيها إلا خيالاً منه.
قد كنتُ أخشى أن ينتهي الحُبّ، لكنني الآن أدركتُ أن ما أخشاهُ حقًا هو أن ينتهي الأمل.
ما الذي يبقى لي، إذا ما فقدتُ الأمل؟ ما الذي يُبقي على هذه الروح قائمة، إن لم يكن في الأفق بصيصُ ضوءٍ، وإن كان بعيدًا، يُخبرنا أن الغدَ قد يحملُ لنا شيئًا جديدًا؟
لكنّي أعترفُ، في هذه الليلة الباردة، تحت نوركَ يا بدرُ، أنّ الأملَ الذي أتشبّثُ به باتَ واهنًا. باتَ كخيطٍ رفيعٍ يتمزّق كلما أمسكتُ به. ربما كان عليّ أن أتركَ هذا الخيط، أن أستسلمَ للفناء، أن أدعَ الذكرياتَ تغدو شبحًا في الماضي، وأن أقبلَ أنّ بسمةَ التي عرفتها، لم تعد هنا.