شقوق الذاكرة ! الرعب الذي لا علاقة للحروب به

علي بن عيضة المالكي
شقوق الذاكرة ! الرعب الذي لا علاقة للحروب به
قد لا تبدو الحروب بشتى أنواعها وكافة أسلحتها وعتادها وأدواتها المادية والبشرية وما يصاحبها من أساليب نفسية وبيولوجية وكيميائية أقول: قد لا تبدو مجرد وجه كالح على الكون غير أن تأثيرها يمتد إلى أعمق من ذلك على الناس؛ لتصبح أشد وأكثر نكأً وأقبح مشهدًا؛ فآلة الحرب لا ترحم بشرًا ولا تبقي حجرًا ولا تذر شجرًا إلا وتقضي عليه وتدمره وقد شاهدنا من آثارها آلاف المشاهد وملايين الصور.
ولكن هناك ما هو أشد فتكًا، وأكثر ضراوة، وأبشع وجهًا، وأقسى أثرًا على الإنسان من آثار الحروب رغم شناعة ما تخلفه من جراح وآلام.
اعلم رحمك الله أن العيش في الماضي يوازي أثر الحرب النفسية، يحوّل المرء من اجتماعي إلى منعزل، ومن شخصية مستقرة إلى أخرى تائهة مشتتة ضائعة لا هوية لها ولا مكانة ولا ومستقبل.
فالماضي الذي يعيش في شقوق الذاكرة أغلظ من آثار المعارك ، الاحساس بالنقص، أو التهميش، أو الإزاحة، الإحساس بالفقر، بالحاجة، بالتقزيم، الشعور بالدونية بالأقلية، هذا الأمر يقلب صاحبه إلى جهاز تسجيل قديم فيقوم العقل بإعادة تشغيل هذاك الشريط بكل أحداثه بصورة يومية ما يسبب عطبًا مستمرًا للذاكرة يجعلها تعيش وقتًا أطول في تذكر الوقائع السلبية، فالدماغ هو سجل الماضي وصندوقه المغلق ما إن يسمح مالكه بفتحه إلا وتتسلل إليه الأفكار الهادمة.
خذ عندك مثالاً : عندما يستيقظ الإنسان من نومه فإنّ أول ما يبدأ به الدماغ هو: التفكير بالمشكلات، واستدعاء ذاكرة الأمس المرتبطة بتلك العُقد والعوائق، هذه الدورة من التذكر تبقيه في الماضي بشكل أساسي وتضعه داخل خانة العواطف فكما نعلم أنّ كلَّ ذكرى تحمل عاطفة ! والذكريات دائمًا تعيد النظر في المشكلة وتستثير نفس العاطفة هذا قطعًا يلازم الشخص في الموضع نفسه باستمرار.
إذن سوف يشكل ضغطًا باتجاه العيش في الأمس، بطبيعة الحال ذلك الضغط يُعد شيئًا مغريًا للمشاعر السلبية فتتكاثر مثل النمل، لتجتاح وتداهم الذاكرة ثم تهاجم وتكتسح العواطف والأفكار لتشكل فيما بعد الشخصية وتشكل كيفية الآخرين!
كل تلك المؤثرات تجر العقل إلى حقل مزدحم وملغوم بالفخاخ السلبية ويمكن بقوة أن ينزلق باتجاه الدخول من بوابة برامج اللاوعي كأن يتفحص المرء هاتفه ويراجع محادثات قديمة مع أشخاص كان بينه ود معهم أو اشتباك في القول فحصل بينهم انفصال أو قطع علاقات، أو القيام بمراجعة رسائل قديمة حصلت في العمل مع زملاء أو أوراق تخص قضايا أو عادت الذاكرة لمكالمة هاتفية طرأت فيها تجاوزات على مستوى الألفاظ أو مشادات كلامية وغيرها من السلوكيات السلبية، مثل تلك الوقائع تعزز حضور الماضي وتحد من القدرة على التغيير، فكلما أوغل المرء في استبقاء الأشياء في الذهن واستدرار الآلام، كلما تقدم أكثر في صعوبة التخلص من السموم الفكرية وأدخل نفسه في ردود الفعل العاطفية والعادات اللاواعية.
كل ذلك يحدث في العقل الباطن وقتئذٍ يصبح الرُّشد اللاواعي أكثر سيطرة عليه وأشد تأثيرًا فيه فَيُطْبِقُ على كلِّ تفاصيل التوازنات فلا يتحقق له القضاء على السلوك السلبي ليظل عَقِبها حبيسًا له لا ينفك عنه ولن يستطيع الإفلات منه؛ لأنها في النهاية تظل سلوكيات محفوظة ليس من الممكن التخلص منها وسوف تصبح تكلسات فكرية يصعب تفتيتها أو إتلافها خاصة عندما يتقدم الإنسان في العمر.
إنّ الدراسات الحديثة تقول: عمر الخامسة والثلاثين هي مرحلة انعطافية هامة في الاحتفاظ بالسلوكيات السلبية، ولإحداث تغيير حقيقي يجب تجاوز العقل الباطن وتفضيل العقل التحليلي، طبعا العقل التحليلي يفصل دومًا الرغبات الواعية عن برمجة العقل الباطن بمفتاح التأمل حتى يقدر المرء على اقتحام أقفال العقل الباطن وإعادة برمجته، فالتروي وإدامة النظر يساعد في إبطاء موجات الدماغ عن استحضار الأحداث السلبية التي وردت في الماضي ويعاون على إجراء تغييرات عميقة وتصور حديث للحياة التي يرغب المتأمل الدخول فيها.
أقول والحق في القول أن انتظار الصدمات لا يخلق شخصية متوازنة بل سوف يفاقم الأمر أكثر على الدماغ يجعله يمارس الأخطاء بكثرة ويتعرض لصدمات أخرى أكثر قسوة يمكنها التأثير عليه وتدميره فضلاً عن ذلك تجعله يعيش في حالة من التوتر المستمر ويزيد عنده التوقع السلبي.
لقد أجمعت أغلب الدراسات النفسية على أهمية تحرير العقل من الطاقة السيئة وتحرير النفس من قيود الماضي العاطفية ودعت إلى استعمال منطقية العقل الواعي.
قبل أن أختم إذا أراد الإنسان أن يتخلص من تلك الشقوق في ذاكرته ، عليه أن يخلق واقعًا جديدًا ويشعر حقًا بالمستقبل الذي يريده، كما وأنه يتوجب عليه الإيمان بأن الأفكار هي لغة الدماغ والعواطف لغة الجسد يتعين الموازاة بينهما ، ثم ما المانع في أن يمنح عقله قوة التصور ويتخيل مستقبلاً إيجابيًا بدلاً عن إشغاله في الآخرين وفي السلبيات التي لا نفع منها ولا فائدة؟ اجعل عقلك يميز بين الحقائق والتصورات الخيالية هذا من شأنه توصيل العقل ليتصرف كما لو أنَّ المستقبل الإيجابي يحدث فعلاً.
كاتب رأي