كُتاب الرأي

نحن نسخ من نسخ مكررة

عندما نأتي إلى هذا العالم، نكون كورقة بيضاء نقية، مليئة بالفضول والرغبة في الاستكشاف، نتطلع بأعين متوهجة إلى كل ما حولنا، ونتساءل عن أسرار الحياة التي تنتظرنا، فالطفل حين يبدأ بالنمو، يتطلع إلى الكبار من حوله، يستمع ويتعلم ويحاكي، هذه هي بداية رحلتنا في تشكيل هويتنا وفهم من نحن.

لكن في عالمنا هذا، هناك صناعة كاملة تعمل على صقلنا بطريقة معينة، تأخذ منا تلك الصفحة البيضاء، وتبدأ برسم خطوط وألوان قد لا تعبر عنا، بل تعبر عما يريدون أن نكون عليه، يتم تشكيلنا حسب مواصفات تبدو مثالية في أعين الآخرين، ولكنها قد لا تكون ما نريد حقا.

ماذا يعني هذا؟ يعني أنه منذ الصغر، نتعلم أن هناك معايير محددة يجب أن نتعلمها وأن نحققها، يقولون لنا كيف يجب أن نتصرف، ماذا يجب أن نقول، كيف ننظر إلى أنفسنا وإلى العالم من حولنا، نتلقى موروثات الأبوين الفكرية والثقافية، ونرى العالم من خلال أعينهم، ونتبنى وجهات نظرهم، نعيش حياتنا ونحن ننظر في مرآة لا نرى فيها إلا انعكاسا لأفكارهم وتوقعاتهم وشخصياتهم.

المال والسلطة والجمال والمظهر الخارجي قد تصبح هي أهدافنا التي يجب أن نسعى إليها، نقيًّم أنفسنا والآخرين على أساس مقدار ما لديهم من هذه الأشياء، نسعى إلى الحصول على القبول من الآخرين، وأحيانا نفعل ذلك بتقديم نسخة مزيفة من أنفسنا، نسخة ترضي الجميع إلا نحن.

لكن، ماذا لو توقفنا لحظة؟ ماذا لو نظرنا في داخلنا وسألنا أنفسنا ما الذي نريده حقا؟ من نحن بعيدا عن كل هذه الأصوات التي تخبرنا بما يجب أن نكون عليه؟ هل نحن سعداء بملاحقة هذه الأمور التي يعتبرها المجتمع مهمة، أم أن هناك شيئا أعمق وأكثر أصالة ينتظر أن نكتشفه بداخلنا؟

الحقيقة هي أن كل واحد منا يمتلك في البداية، عندما نولد، شغفا بلا حدود لاكتشاف كل شيء حولنا، ننظر إلى العالم بنظرات مليئة بالفضول والدهشة، نتساءل، نلمس، نسمع، ونحاول فهم هذا الكون العجيب الذي نعيش فيه، ومع كل يوم جديد، نكتسب معرفة جديدة، ونبني قطعة جديدة تضاف إلى لغز شخصيتنا.

لكن مع مرور الوقت، نجد أنفسنا ندخل في مسار محدد مسبقا يقوده المجتمع، و الأهل والمعلمون والأصدقاء ووسائل الإعلام كلهم يساهمون في صياغة أفكارنا وأفعالنا، يقدمون لنا نماذج يعتبرونها مثالية، ونحن، دون وعي، نبدأ بتقليدها، نتشرب العادات والقيم والمعتقدات التي ينقلها لنا الآخرون، ونبدأ برؤية العالم من خلال أعينهم.

وهذا يعني أننا نتخلى عن جزء من شخصيتنا ونصبح نسخا من نسخ مكررة، ونكرر ما تم تكراره آلاف المرات، نتلقى موروثات فكرية دون أن نسأل: هل هذه الموروثات تمثلني حقا؟ هل هي تعبر عما أريده أنا، أم أنها مجرد أصداء لأفكار وتطلعات من سبقوني؟

ومع تقدمنا في العمر، نجد أنفسنا نسعى وراء ما يقولون إنه يستحق السعي والتعب: الثروة، النفوذ، الجمال والمظهر الخارجي، نركض خلف هذه الأمور، معتقدين أنها ستمنحنا السعادة والقبول، ويصبح قبول الآخرين أهم من قبولنا لأنفسنا، ونبدأ بتقديم صورة للناس ليست حقيقية، بل هي ما نعتقد أنه سيجعلنا محبوبين ومقبولين، ولكن في لحظة التوقف والتأمل قد نغير كل شيء، حين نتساءل عن هويتنا الحقيقية، وعما نريده بعيدا عن الأصوات المحيطة بنا، ونكتشف أن سعادتنا الحقيقية تكمن في مكان آخر، تكمن في الاستقلالية، في تقبل الذات، في ضميرنا، في الإصغاء لصوتنا الداخلي، وفي العيش بما يتماشى مع قيمنا ومعتقداتنا الحقيقية.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫5 تعليقات

  1. في رحلة الكتابة متسعٌ من الأطروحات الفكرية حيث تجد الأقلام المُولعة بالحرف والكلمة متعتها ففي داخل كل كاتب مساحة كبيرة ورحلة طويلة تتلالأ بجواهر الأدب وفنون الكلمة الراقية وصدق القائل: (بأن المقال هو مفتاح شخصية كاتبة) يجد فيه ومن حوله القاريء القيمة الدافعة للكاتب وهو يمتطيء صهوة جواد عباراته الراقية.
    هكذا يُطلُّ علينا الإعلامي والكاتب المبدع ورئيس التحرير والمستشار الأمني الأستاذ محمد على الفريدي من خلال صفحة الرأي من صحيفة “آخر أخبار الأرض” بمقال تميز بالجدية وانتقاء جمال المعنى شأنه شأن كبار الكُتَّاب متسائلا: أيننا عن هذا الأديب ؟؟ ومنذ زمن بعيد عن هذا الطرح الفكري ليأتي لنا من خلال صحيفته عمَّا كنا نبحث عنه! ضمن أعمدة كتاب الصحافة الورقية قبل أن تتقلَّص أعداداها وسط منافسة قوية من قبل الصحافة الإلكترونية التي نأمل أن تفي بوعودها كبديل للصحافة الورقية.

    1. اشكرك أستاذي الكريم على كلماتك اللطيفة، وأتمنى أن يكون لي فعلا تأثير إيجابي على القراء لأتذوق طعم التعب ونتيجة الكلمة والأدب، فالرحلة الكتابية يا سيدي مغامرة شيقة وممتعة، يتم فيها استكشاف أفكارنا التي نجسدها في صورة حروف وكلمات وجمل، ومن خلالها يمكننا التعبير عن مشاعرنا بأسلوب فني يلامس الروح والمشاعر ويترقى بأحاسيس البشر.
      أستاذي العزيز أبو معتز، اعلم ويعلم الجميع بأنك كاتب وإعلامي متميز، وتتمتع بقدرة فريدة على اختيار كلماتك، وتصوغ أفكارك بطريقة جميلة، وكذلك تتميز بكتابة مقالات ذات معان ومفردات راقية تعكس مسيرة طويلة من الكتابة والتفكير الفلسفي، وثناءك على شخصي ومقالي لا يدل والله إلا على تواضع الكبار.
      وفيما يتعلق بالتحول الذي يشهده المجال الإعلامي، فإن الصحافة الورقية لا تواجه تحديات كبيرة من الصحافة الإلكترونية فحسب بل بسبب ذنوبها تلاشت من الوجود فقد كانت تمنع المبدعين فيما مضى من الكتابة على صفحاتها وتفرد الأعمدة والمساحات للسذج والصغار، ومع ذلك، فإننا نأمل في أن تستمر في تقديم محتوى ذو جودة عالية ورؤى مميزة، وشكرا مرة أخرى على تعليقك الجميل والملهم.
      وتقبل فائق تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى