كُتاب الرأي

بين تدليلٍ يُفسد وقسوةٍ تحطم

الدكتورة سارة مرزوق الأزوري

بين تدليلٍ يُفسد وقسوةٍ تحطم

في زمننا الحاضر، تتسع فجوة التفاهم بين الأجيال، فتظهر ملامح تمرد الأبناء على آبائهم بشكلٍ أكثر وضوحًا. هذا التمرد، الذي كان يُنظر إليه في الماضي باعتباره ظاهرةً شاذة، وخروجًا عن تعاليم القرآن الكريم والسنّة النبوية، التي أمرت ببرّ الوالدين وطاعتهما في غير معصية الله،
أصبح اليوم أمرًا مألوفًا، خاصةً مع تطور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تبث أفكارًا ومفاهيم قد تُبعد الأبناء عن جذورهم وقيمهم الأسرية.
إن التربية المتوازنة هي التي تحقق الانسجام بين الحرية والاحترام. فالحرية لا تعني الفوضى، والتمرد ليس وسيلةً لإثبات الذات. فالأبناء الذين يفهمون معنى المسؤولية ويحترمون آباءهم، هم الأقدر على تحقيق الاستقلالية الحقيقية، لأنها تنبع من قوةٍ داخلية وفهمٍ عميق للذات وللأسرة والمجتمع. أما الذين يختارون طريق التمرد، فإنهم غالبًا ما يجدون أنفسهم أسرى لأوهامٍ لا تقود إلى النضج، بل إلى الانعزال والضياع.
إنها مفارقة العصر: أبناءٌ يتحدثون عن الحرية لكنهم يتخلّون عن مسؤولياتها، ويريدون الاستقلالية لكنهم يفرّون من تبعاتها.

فالتربية السليمة لا تقوم على شعاراتٍ جوفاء، ولا على قمعٍ خانق، بل على الحوار والاحترام والتفاهم. وعندما يتعلم الأبناء أن الحرية الحقيقية تأتي من تحمّل المسؤولية واحترام الآخرين، وليس من تمردٍ بلا هدف، يصبح بإمكانهم بناء مستقبلٍ متوازن يليق بهم وبمجتمعهم.
وفي مشهدٍ مثير، نجد في إحدى حلقات مسلسل “جاكم العلم” شخصية الابن المدلّل “صامل”، الذي يلجأ إلى تقديم شكوى ضد والديه، مستغلًّا القوانين التي وُضعت لحمايته، بحجة التعنيف الأسري، لأنه لم يحتمل حدود التربية أو توجيهات والديه. مشهدٌ يعكس مدى ما وصل إليه انفصال الأبناء عن قيم الأسرة، وكيف أصبحت القوانين التي وُضعت لحمايتهم سلاحًا يُشهر ضد آبائهم، مما يعمّق جراح الأسرة ويقلب موازين العدالة والرحمة.
وتتعمق هذه المأساة مع منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت مسرحًا لقصص “الأمهات النرجسيات” و”العائلات السامة”، وكأنها تسوّق للأبناء مبررات العقوق. مقاطع وتعليقات تبث الكراهية والحقد، حتى إن إحداهن كتبت تعليقًا على مقطع كان بعنوان كيف تتعامل مع الأم النرجسية والسامة على منصة التيك توك تقشعرّ له الأبدان: “لو شفتها تحترق ما أرحمها”. ألهذا الحد وصل بنا الحال؟!
مؤلمٌ حقًا هذا الانفصال الذي لا ينحصر في الأبناء وحدهم، بل يمتد إلى بعض الأمهات اللاتي اتّسمن بالضعف، وانسلخن من ذواتهن ليقدّمن كل شيءٍ لأبنائهن دون حدود، حتى إذا لم يجدن المقابل المتوقع، انبرين لمعاتبة الأبناء ولومهم، بينما اللوم الحقيقي يقع عليهن، لأنهن ربَّين أبناءً على القسوة والتمادي منذ نعومة أظفارهم. فتغاضين عن الإساءة، وغمروهم بالتسامح المفرط، وكلما كبروا تمادوا، حتى صار العقوق ديدنهم.
وفي المقابل، نجد آباءً وأمهاتٍ متطلبين، متشبعين بالقسوة المفرطة، أذاقوا أبناءهم صنوف العذاب النفسي والجسدي. فإذا توالت الأيام، ودخلوا في كهوف الشيخوخة، وتجرأت عليهم الأمراض، بحثوا عن دفء الأبناء الذين رضعوا القسوة، وتشبعوا منذ نعومة أظفارهم بمبدأ: “فاقد الشيء لا يعطيه”. وحين لا يجدون حنانًا، يشرعون في التبرم والشكوى، ويتسابقون إلى وصم الأبناء بالعقوق والعصيان.

وهنا أيضًا تتجلّى المفارقة العجيبة: بين آباءٍ أفرطوا في دلال أبنائهم، فكافأهم الأبناء بالعقوق، وآباءٍ أفرطوا في قسوتهم، فجاءهم العقوق كردٍّ طبيعي على ما بذروه.
إنها الحياة التي تعيد الدروس دون مواربة، فتُري الجميع عواقب اختياراتهم، سواءً كانت بدلالٍ أعمى أم قسوةٍ قاتلة.
إنها الحياة التي تعيد الدروس دون مواربة، فتُري الجميع عواقب اختياراتهم، سواءً كانت بدلالٍ أعمى أم قسوةٍ قاتلة.
الحياة تعلّمنا درسًا بليغًا: من لا يعرف كيف يكون ابنًا بارًّا، لن يعرف كيف يكون أبًا حكيمًا. وهي لا ترحم من يهمل دروسها، بل تعيد إليه أفعاله مضاعفة، في زمنٍ قادم، حين يصبح هو أبًا أو أمًّا، ينتظر برًّا فلا يجده.

أديبة وكاتبة رأي سعودية

الدكتورة سارة الأزوري

أديبة وشاعرة وقاصة وكاتبة رأي سعودية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى