كُتاب الرأي

صحفنا الإلكترونية ومحركات البحث والترند

وأنا في مرحلة الاستعداد لتدشين صحيفتي الإلكترونية، لفت انتباهي صديقا لي لأمر هام حين قال: “إن نجاح صحيفتك وانتشارها مرهون بنشر أكبر عدد ممكن من الجرائم الجنائية التي تقع في المملكة يوميا، فهذا ديدن أغلب الصحف في بداياتها للوصول إلى الانتشار السريع والشهرة”، فلم أخذ كلامه على محمل الجد، ولكن قررت بصراحة بيني وبين نفسي أن أتابع معظم تلك الصحف الإلكترونية بصمت لعلي أجد العكس.

وبعد متابعتها لوقت ليس بالقصير، فوجئت بأنها بالفعل تتسابق مع بعضها البعض في نشر الجرائم التي تقع في المملكة بصفة يومية، وكأنها تتغذى عليها، أو تهدد أمننا ووحدتنا ووجودنا وكياننا، وكأن ليس لدينا أمن ولا أمان، ولا رجال أمن، ولا وزارة داخلية!!

إن نشر الجرائم في الصحف الإلكترونية السعودية بهذا الشكل المخيف موضوع يستحق أن يناقش من قبل المختصين والمفكرين ورجال الأمن، فالكثير من الدول تقع فيها جرائم أكثر بكثير مما يقع في المملكة، ولكننا لا نرى سباقا محموما لنشر الجرائم التي تقع فيها.

قد يقول قائل إنها دول ديكتاتورية وإن ادعت الديمقراطية، وتمنع التركيز على نشر الحوادث الجنائية التي تقع فيها، وتقنن عملية نشرها، وتفرض العقوبات المالية الباهظة عليها إن خالفت صحفها قوانينها، ولا تترك لها الحبل على الغارب لتحقق رغباتها على حساب أمنها وسمعتها، وآخر ما يهمها أن تتربع صحفها على عرش محركات البحث التي هلوست بصحفنا الإلكترونية وأصابتها بالجنون وحمى الظهور والشهرة والفشخرة بعد انحسار الضوء عن صحفنا الورقية.

وحسب علمي، يري المختصون أن التركيز على نشر هذه الجرائم في أي دولة يصورها للرأي العام على أنها دولة غير آمنة، ويغرس في الأذهان انطباعا سلبيا عنها مع مرور الوقت، ويحط من قدر مستوى أمنها، ولقد رأيت بكل صراحة بعد متابعة لصيقة لما يدور بين صحفنا في الخفاء أن الخاسر الوحيد في هذا السباق المحموم هو هذا الوطن الذي تعب ” جيل الطيبين” في بنائه وكلفه الكثير ليرسخ دعائم أمن نستظل تحت ظلاله اليوم وصحفنا التي تبحث عن الترندات في المقام الأول لا تقدر تضحياته، ولا ترى له فضل عليها لا بالأمس ولا اليوم ولا غدا.

فلهذا لا يكون التعامل مع هذه الصحف التي تتعمد تسليط الضوء على الجرائم الجنائية التي تقع في محافظاتنا ومدننا لتثير اهتمام القراء في أنحاء العالم، وتحقيق نسب مشاهدات أعلى بخوف وحذر، فهي خطر علي أمننا واستقرارنا أولا وثانيا وثالثا وان ارتدت ثياب الوطنية تاسعا وعاشرا، فإذا كانت بالفعل تحب هذه الصحف الوطن كما تدعي وتحرص عليه فيجب عليها ان لا تجعل المتلقي أيا كان يأخذ عن بلادنا انطباعا سلبيا أو سيئا بسبب نشرها للجرائم الجنائية التي دائما ما تقع في جميع دول العالم بلا استثناء.

كما أن التركيز على نشر الجرائم الجنائية في صحفنا الإلكترونية يؤثر سلبا على السياحة والاستثمار والعلاقات الدولية، ويظهرنا أمام الملا بمظهر الضعيف، كما قد يستغلها (زلايب لندن) من الذين يعيشون في الخارج كلاجئين ومشردين ويشوهون منجزاتنا الوطنية، ولا أستبعد فرضية أنهم يقفون وراء انتشار هذا السباق المحموم في نشر الجرائم التي تقع في المملكة بهذا الشكل الكثيف والمخيف لزعزعت الثقة في نظامنا الأمني ﻭ القضائي وتشويه سمعة بلادنا بطريقة في ظاهرها السعي لمقدمة محركات البحث والوصول إلى الترند وفي باطنها الموت والعذاب والخراب.

ولكني بعد هذا البحث المضني والمتابعة الطويلة أصارحكم القول بأنني ولله الحمد تيقنت بأن إنشاء صحيفة إلكترونية يتطلب مني النظر في الكثير من العوامل والتوجهات الأخلاقية والمهنية، وأن أتحلى بالمسؤولية عند تغطية الأخبار الجنائية، فالهدف ليس فقط تزويد الجمهور بالمعلومات، بل إن نقدمها له بطريقة لا تثير خوفه وفزعه أو تشوه صورة المجتمع والوطن، وان علينا كصحفيين اتباع معايير أخلاقية عالية الجودة، والتحقق من المصادر والحفاظ على خصوصية الضحايا وعدم التحيز أو المبالغة في نشر الحقائق، وان لا نخلق بنشر الجرائم إحساسا زائفا بعدم وجود الأمان في الوطن وبين الجمهور، فهذا أمر يؤثر على صورة وسمعة المملكة داخليا وخارجيا، وأن نكون متوازنين في تغطياتنا الإخبارية وتشتمل على التقارير التعليمية، والثقافية، والاقتصادية والاجتماعية إلى جانب القليل من الأخبار الجنائية مع التزامنا بالقوانين المحلية والدولية التي تنظم نشر الأخبار الجنائية، وإن ﻻ تؤثر تغطياتنا للحوادث الجنائية على نسيجنا الاجتماعي وأمننا العام والوطني، وأن نطرح الحلول بدل تسليط الضوء فقط على الحوادث الجنائية، وأن نقدم أخيرا محتوى متوازنا يخدم المجتمع ويعزز الوعي بدلا من التركيز المفرط على الجرائم التي تؤثر سلبا على صورة وسمعة المملكة.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. نعم سعادة المستشار مصلحة الوطن اولاً و ثانياً و ثالثاً …..و التسابق لنشر هذه الجرائم من باب نشر القبيح الذي نهى المولى عز وجل عنه في قوله تعالى ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ) قال ابن كثير في تفسيرها أي : يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح . ( لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) الاية.
    وان كنت ارى لو انه ينشر مافيه إنجازات و نجاحات للأجهزة الامنية بعد موافقتها .
    جزاك الله خير على نهجكم الطيب مع تمنياتي لكم بالتوفيق و السداد ،،،

    1. اعلم أن لديك آراء قوية فيما يتعلق بمصلحة الوطن، وكثيرا ما كنت تذكر لنا بأن مصلحة الوطن يجب أن تكون لها الأولوية في كل شيء.
      إن كان هناك إنجازات ونجاحات للأجهزة الأمنية، فأنت واحد من الذين أسهموا في هذه النجاحات والإنجازات في الفترة الماضية، ومن الذين تركوا لنا ولمن بعدنا نهجا حسنا متزنا وذكرا طيبا.
      شكرا على تواصلك والتعليق على مقالي سيدي.
      تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى