كُتاب الرأي

بيئة الخوف تقتل الإبداع

استمعت ذات يوم لأحد مدربي التنمية البشرية وهو يشرح للمستمعين الفرق بين النخلة والسدرة، وكان مختصر كلامه يدور حول أن:

  • النخلة ترمي بلحها بعيدًا عن ظلها، فإذا ذبلت بفعل الطقس وحرارة الشمس، تغوص نواتها في التربة أو في الرمال، ثم تنبت وتورق وتصبح نخلة تقف بجانبها.

  • أما السدرة فترمي بثمرها (النبق) تحتها مباشرة، وتمد أغصانها بحنان من فوقها في كل اتجاه وتغطيها، وتبقيها في الظل حتى تموت بسبب كثافة أغصانها المتشابكة التي تمنع وصول الشمس والضوء إليها.

ثم قسم الناس على النحو التالي وقال:
* هناك أناس يرتعون في الظل طوال حياتهم، وإن حالفهم الحظ وانغرسوا في الرمل أو التربة ونبتوا، فإنهم لا يستطيعون أن ينتجوا ثمارًا مفيدة للمزرعة التي نبتوا فيها.

  • وهناك أناس يهربون من الظل كما تهرب نواة البلحة من النخلة ليشبعوا من أشعة الشمس الحارقة، وينطلقوا بعد ذلك في عباب الحياة ليكتشفوا عوالم جديدة أخرى.

وذكر بأن هؤلاء هم من نتذكرهم بعد رحيلهم، ونروي قصصهم لأطفالنا قبل النوم، ويدون تاريخنا أسماءهم في كتبنا المدرسية تحت مسمى “عظماء من تاريخ بلادنا”، أما الذين يقضون حياتهم في الظل، فهم الخائفون من الإبداع، المؤمنون بأن الإبداع مشتق أصلاً من “البدعة”، ويحاربوه بلا منطق ولا حجة، لأنهم لم يفهموا ماهيته ولم يعرفوا فوائده، وما عندهم غير “الدجل والدجه”.

الخائفون من الإبداع لا يؤمنون بتطور الحياة، ويرمون بالإلحاد كل من تسول له نفسه والعياذ بالله أن يذكر كلمة “تطور” في كلامه، بحجة أنها مشتقة من نظرية “داروين الخرافية” التي تقول بأن أصل الإنسان كان ميكروبًا ثم تطور من ميكروب صغير لعصفور ثم من عصفور لحشرة، ثم من حشرة لقرد ثم من قرد لبقرة!!

الخائفون من الإبداع يخشون أن يقتحم الإبداع كسلهم، وينتهك عزلتهم، لأنهم لا يفهمون لغته، ولا يستطيعون مجاراة أهله، ومن يستطيع أن يكشف أقنعتهم المزيفة المعلقة على وجوههم، ويسقط أفكارهم الضحلة أمام الملأ، ويجعلها تضمحل، يصبح في نظرهم ابن ست وستين (كلبة).

الخائفون من الإبداع قد يبنون مدنًا ضخمة، ولكنهم لن يستطيعون بناء حضارة تدوم طويلاً، كل حضاراتهم التي رأيناها حضارات باهتة كأوراق شجرة باهتة، إن سقطت واحدة منها تنبت مكانها مائة وعشرون ورقة باهتة، أما الحضارة القوية التي نرمز إليها هنا بالشجرة فتظل شامخة طوال الوقت لتشهد على نمو وسقوط الحضارات والمدن التي انهالت على رؤوس سكانها الكآبة ولا تزال لوحدها بين ركام كوارثنا صامدة.

يعرف دكتورنا المبدع، إدوارد دي بونو، الإبداع بقوله:
“هو الهروب من أنماط الحياة المتعارف عليها، حتى نتمكن من رؤية الأشياء بصورة مختلفة”.
بمعنى آخر، أن نفر من كل بيت لا يناسبنا، أن نهرب من بيوتنا المظلمة، لا لنبحث في خارجها عن النور، بل لنصنع النور فيها بأيدينا، أو بألسنتنا، أو بقلوبنا، وذلك أضعف الإبداع.

إن الإبداع يا سادة يمنحنا الأمل، يقوي إرادتنا، يحملنا إلى خارج نطاق المعقول وحدود الزمن، يأخذنا إلى حيث يعيش كوكب المريخ والمشتري وزحل، سنن كونية يجيد اللعب على أوتارها من يبحر بقلمه ويستخرج النور من الظلم.

الإبداع ومضة من نور خافت، وضياء يمتد على طول أفق كوننا المعتم، لنحرر أفكارنا من قيودنا، ونمحو ظلامنا بنورنا، نورنا الأبدي الذي يبقى في أماكنه وإن رحل من وجودنا صاحبه، فالراحلون من المبدعين كالنجوم التي رحلت منذ آلاف السنين ولا زالت أشعتها تصل إلينا إلى اليوم، ألوانها زاهية لا تبهت، يصطبغ بها كل من يدور في فلكها أو يمشي من حولها أو يمر بجوارها، تزيدهم شمسنا الحارقة نضجا وصلابة، يضيئون في ظلامنا الدامس حتى ولو لم تمسسهم نار، المبدعون مراحل تختلج في جنباتهم إرهاصات زماننا الجميل، وتتزاحم من حولهم أرجل المهرولين نحو المستقبل، ويطئون سطح المريخ بأقدامهم ليتركوا لنا أرضا تدنست بأقدام الجهلة وأنفاس الطغاة والمتشددين.

أما الخائفون من الإبداع فهم مشكلة المشاكل، لا يبدعون، ولا يدعون غيرهم يبدعون، يدسون أنوفهم في كل شيء، وكأنهم يعلمون كل شيء، وهم لا يعلمون شيئا، عبء علينا وعلى دولنا ومجتمعاتنا، يولدون، ويعيشون، ويموتون، ولا يعرفهم إلا مغسلو شئون الموتى وديدان الأرض التي تأتي لتلتهم ما بقي من أجسادهم، جماعات وفرادى، كسالى لا يسخرون إبداعاتهم وأقلامهم في مناصرة قضايا أمتهم، سفالة منحطون أكثر من الخائفين من الإبداع، والذين لا يبدعون ولا يدعون غيرهم يبدعون، لأنهم اختاروا الانعزال في الظل، في وقت حاجة أمتهم إليهم، انعزلوا كثمار أشجار النبق التي وُلِدَت لتموت تحت الأغصان، بعيداً عن الضوء وأشعة شمسنا الحارقة ، وخوفا من صفعة الجلاد.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫3 تعليقات

  1. ماشاء الله رائع بروعة الأديب الكبير ابو سلطان.

    وفقك الله ولمزيد من التألق .
    اخوكم / حزام ال فاهده

    1. أشكرك سعادة اللواء حزام ال فاهده على إعجابك بهذا المقال، وأنا سعيد جدا لأن سعادتكم استمتع بقراءته ووصفه بأنه “رائع”، وإن كان هذا الإطراء إطراء لا أستحقه، ولكن بمشيئة الله سنستمر في تقديم المزيد من المحتوى الذي ينال استحسانكم ويلهم ويثري القراء.
      شكرا مرة أخرى لمرورك الجميل من هنا ولقلبك الأجمل.
      تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى