كُتاب الرأي

الليل الطويل وحنكشه العتقي

محمد الفريدي

عندما زرتُ المنطقة الشرقية قبل خمس و أربعين سنة، لفت انتباهي التزام الأهالي بآداب الطريق واحترامهم للأنظمة المرورية والمارة، وأرجعتُ ذلك في حينه إلى الدور الإيجابي لشركة أرامكو وانعكاس ثقافتها على ثقافة أهالي المنطقة، مما خلق بيئة مرورية أكثر تنظيما وسلامة من بقية المناطق الأخرى.

في المقابل، كانت تجربتي مع قيادة السيارات في بعض المناطق تعكس واقعا مختلفا، حيث تعاني الشوارع من ازدحام مستمر وفوضى مرورية على مدار الساعة، مع كثرة التجاوزات المتهورة من اليمين واليسار بسرعة البرق، وانتشار الشتائم والسباب لأتفه الأسباب، إضافة إلى الحركات اليدوية غير اللائقة والمعروفة للجميع.

هذه التصرفات غير اللائقة تمثل تحديا كبيرا يتطلب منا العمل الجاد على تحسين سلوك السائقين، والالتزام بالآداب العامة، وغرس ثقافة مرورية صحيحة، وتطبيق أنظمة فعالة لتحسين الوضع في طرقاتنا، والوصول إلى مستوى الاحترام الذي رأيناه في المنطقة الشرقية.

كنا نعتمد على الدواب أو نسير على الأقدام للتنقل من مكان إلى آخر، واليوم أصبحنا “بهاوات” نركب السيارات الفارهة، ولا ندري ما الذي سنستخدمه في المستقبل من وسائل نقل متطورة.

قضيتي ليست في التطور التكنولوجي بقدر ما هي في أسلوب تعاملنا مع بعضنا البعض ، فهل الحركات غير اللائقة التي نراها تُستخدم بكثرة في بعض مناطقنا تُعتبر حضارية ومحترمة؟ أم هي دليل على أننا بحاجة إلى إعادة النظر في أخلاقنا التي تعلمناها من آبائنا ومدارسنا بشكل جذري؟

لقد بلغت معاناتنا من الطرقات ذروتها، فالحوادث في تزايد مستمر، والمضايقات أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وشوارعنا في ساعات الذروة باتت أشبه بمواسم حج، مما دفع الكثير منا إلى البقاء في منازلهم هربا من الازدحام والمشاحنات، و الخروج في أوقات متأخرة لتفادي الازدحام والإزعاج والمضايقات.

هذا الواقع المرير لا يعكس فقط مشكلاتنا المرورية، بل يكشف أيضا عن أساليب تعاملاتنا السيئة مع بعضنا البعض في حياتنا اليومية، وما نحتاج إليه من وزارة الداخلية، بالإضافة إلى سن الأنظمة، هو تغيير ثقافة الاحترام والتعاون في داخل مركباتنا وشوارعنا.

تعلمنا قديما أن القيادة (فن وذوق وأخلاق)، ولكن ما نراه يوميا في طرقاتنا لا يمت لهذه المبادئ بصلة ، فكيف يمكن تسويغ هذا السلوك الممجوج الذي نشاهده باستمرار في شوارعنا؟ فقد شاهدت على سبيل المثال، سيدة تتقدم بسيارتها أمام رجل في الطريق، فينفجر غاضبا ويستغل أول فرصة لترويعها بقيادة متهورة ، فهل يمكن أن نعتبر هذا التصرف تصرفا رجوليا؟ أم أنه موقف يفتقر إلى الحكمة، ويحتاج إلى نقد عقلاني ومنطقي ومحاسبة؟

الأمر لا يتوقف عند هذا الحد؛ ففي مشهد آخر، شاهدت شابا يقدم على تصرف مشين ومخجل، حيث يشير بيده بحركة غير لائقة لفتاة بعد أن مرت بجواره، واستخدمت المنبه بطريقة مزعجة ، فهل تعبر هذه التصرفات عن أخلاقنا كشعب سعودي خلوق، أم أنها تعكس عدم نضج وانعدام اخلاق و رجولة؟ وهل يقبل هذا الشاب أن يقوم أحد مستخدمي الطريق باستخدام هذا السلوك مع إحدى قريباته؟

نحن بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في سلوكياتنا وأخلاقياتنا على الطرقات العامة. فهي ليست مجرد تصرفات عابرة تنتهي بـ(كل واحد يصلح سيارته ﻭ ينتهي الامر )، بل تعكس مدى انحطاط إنسانيتنا وتؤثر سلبًا على صورتنا وهويتنا السعودية الأصيلة التي يحب البعض العبث بها متى يشاء ويعتبرها متى يشاء تصرفات فردية غير مسؤولة.

ألم يُشاهد المشرعون وأعضاء مجلس الشورى أنه في ظل الازدحام المتزايد والضغوط النفسية المستمرة أصبحت شوارعنا أشبه بساحات مشحونة قابلة للانفجار في أي لحظة؟ وهل هذا التوتر المستمر في شوارعنا هو ما نطمح إليه؟ هل نريد العيش في (غابة) تسودها الفوضى والصراعات ونسكت حتى تصبح ثقافة المواخير منتشرة في شوارعنا؟

مع تزايد أعداد السيارات وارتفاع منسوب التوتر في شوارعنا وكثرة استخدام الحركات القذرة والألفاظ الخادشة للحياء، نحن بحاجة ماسة إلى أنظمة تفرض التحلي بالأخلاق الحميدة والاحترام المتبادل بين مستخدمي الطريق لنتمكن من العيش بسلام واحترام وراحة بال.

فالواقع يشير إلى أن بعض السائقين لا يحترمون المشاة ولا النساء ولا السائقين الآخرين، ويعتقدون أنهم فوق الجميع بمجرد أن يجلسوا خلف مقود سياراتهم، إلا بسيف السلطان.

إن الطريقة التي نقود بها سياراتنا تعكس الكثير عن شخصياتنا، فـ(قل لي كيف تقود سيارتك، أقول لك من أنت)، هذا المبدأ لا يقتصر على أخلاقنا وشخصياتنا في الطرقات العامة فحسب، بل يمتد ليشمل كل تفاصيل حياتنا اليومية، مما يدعونا لاستعادة ما تبقى من أخلاقنا وإنسانيتنا كسعوديين قبل فوات الأوان.

ولكي نقضي على ظاهرة السباب والشتائم والبذاءة والحركات غير اللائقة التي يستخدمها بعض مستخدمي الطريق في شوارعنا، يتطلب الأمر تبني مجموعة من الحلول العملية القابلة للتنفيذ، كتكثيف الحملات التوعوية التي تركز على أهمية احترام الآخرين واتباع القواعد المرورية عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ونشر الرسائل الإيجابية حول السلوك الصحيح على الطريق، وإدراج مادة (الأخلاق المرورية وآداب الطريق والقيادة) في المناهج الدراسية للطلاب من الجنسين لتشكيل جيل واعٍ يهتم بالاحترام والتعاون في الطرقات العامة.

وبعد ذلك يأتي دور تطبيق القوانين والعقوبات الصارمة على السلوكيات غير اللائقة، وتعزيز إجراءات ضبط هذه المخالفات ومراقبتها، مع دعم المبادرات التي تعزز روح التعاون والاحترام بين السائقين من خلال فعاليات مجتمعية وبرامج تشجع على التعامل الإيجابي والتسامح، وتعزيز دور المجتمع المدني في المراقبة والإبلاغ عن السلوكيات السيئة، وتشجيع الأفراد على تقديم الشكاوى والملاحظات إلكترونيا، وإدخال دروس مبسطة حول الأخلاق والسلوك في برامج تدريب السائقين عند استخراج رخص القيادة لضمان تعلمهم كيفية التعامل مع المواقف المحرجة بطريقة محترمة وسليمة.

بتطبيق هذه الحلول على المدى البعيد والمتوسط، أعتقد أن الأجيال القادمة ستستفيد، وستختفي هذه الظواهر السلبية من حياتهم وشوارعهم إلى الأبد، أما الجيل الحالي، فمن كثرة مشاهداتي ويأسي من طريقة تعامله وتفكيره، سأكتفي بما قاله (حنكشه العتقي) في مسلسل (الليل الطويل) الذي بث عام 1972 على القناة السعودية الأولى بعد أن اشتعل رأسه شيبا: (منو العوض، وعليه العوض يا عصام).

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫10 تعليقات

  1. لافض فوك أستاذ محمد مقال جميل وواقعي ولامس الجرح فعلا شوارعنا أصبحت ساحات قتال والبقاء فيها للأكثر جرأة ووقاحة ..أعجبتني الحلول المطروحة في المقال ياليت يتم النظر لها بعين الاعتبار

  2. لافض فوك أستاذ محمد مقال جميل وواقعي ولامس الجرح فعلا شوارعنا أصبحت ساحات قتال والبقاء فيها للأكثر جرأة ووقاحة ..أعجبتني الحلول المطروحة في المقال ياليت يتم النظر لها بعين الاعتبار

  3. إنما الأمم الأخلاق مابقيت ..
    تقاس الأمم بمدى تطبيقها للأخلاق في المواقف المختلفة وهذا مايدعوا إليه كاتب المقال أ محمد المهمة صعبة ونتمنى التوفيق بتطبيق الحلول ونشر الفضيلة في كل مكان بمعونة الله ..
    دام المداد أ محمد

  4. مقال للكاتب الكبير رئيس التحرير الأستاذ محمد علي الفريدي وضع النقاط على الحروف ويلامس واقع أصبح محل إهتمام الشارع السعودي الحريص على إحترام أنظمة المرور إنطلاقا من مبدأ السلامة لقائد السيارة وغيرهم من بقية قائدي السيارات في قضاء حاجاتهم اليومية في ذهابهم وإيابهم من وإلى مقرات أعمالهم فمثلا هذه المقالات تحقق من خلال طرحها من قبل كاتب بحجم مهنية الكاتب الأستاذ الفريدي ودعوة
    لتكون ورشة عمل في أسبوع المرور القادم يتم مناقشتها من قبل عدد من المتخصصين من الأكاديميين وكتاب الرأي ونماذج من شباب الجامعات حفاظا على الأرواح والذوق العام.

  5. أحسنت أستاذ محمد
    بارك الله بك

    مايجري في الشوارع هو معاناة يعانيها جميع الأصحّاء ، سواء من الرجال أو النساء

    الشارع بيئة تربوية ، و بالتالي تحتاج لأنظمة و قوانين فعلية تُطبّق باستمرار بالرّصد الالكتروني و الملاحظة المُجرّدة

    ينقصنا رسائل توعوية و تحذيرية من المرور للشباب لاستيعاب التغيرات الحاصلة مع الرؤية

    أعان الله الجميع و سدّد الخُطى و حفظ وطننا و حكامنا 🇸🇦

  6. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ما شاء الله تبارك الله
    مقال مميز ورائع وجميل يا أبا سلطان
    أمّا ما تفضلت به _ بارك الله فيكم ولكم _
    من مقترحات و حلول لتلك الظاهرة الغير حضارية
    فهذا وجميل ويمكن زيادة :
    أولاً: نشر برامج توعوية تثقيفية في هذا المجال .
    ثانياً: نشر ثقافة اللوائح والأنظمة الصارمة في هذا الخصوص.
    ثالثاً: الإستفادة من جميع الألعاب الرياضية بالنشر والتوعية لأهمية القيادة الحكيمة الواعية ورفع شعار بذلك .
    رابعاً: تفعيل دور وسائل الإعلام المختلفة في هذا المجال .
    خامساً: الحزم والصرامة في تطبيق اللوائح والأنظمة بعد أن أخذ المواطن والمقيم حظه من التوعية والثقافة.
    وإلى الأمام دائما وابدا …أيها الرئيس الفذ …

  7. كاتب الصحيفة المبدع ورئيس تحريرها الأستاذ محمد الفريدي :

    لقد وفقت في اختيار هذا الموضوع المهم جدا في عصرنا الحاضر
    حيث أن مقالك هذا يسلط الضوء بشكل رائع على التحديات اليومية التي نواجهها في الطرقات . وتصويرك للزحام والمشاكل المرتبطة به يجعل القارئ يشعر بالواقع بشكل عميق . آمل أن تساهم هذه التوعية في دفع المجتمع لإيجاد حلول فعالة لتحسين تجربتنا جميعا في التنقل . شكرا لمشاركتك لنا هذه الأفكار القيمة👍

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى