هبَّت رياح التغيير

تأتي الرياحُ لِتأخذَ في أعاصيرها حفنةً مما غطّى الماضي، فترفعُ الأستارَ رويداً رويداً حتى نرى ما عِيش في ذلك الوقت، ونرتوي من العظة والعبرة ، ونستشعرَ الحاضر وما نحن فيه من كثرة النعم والحمدلله على ماكان وما سيكون.
قرأنا في كُتب المؤرخين قصصاً مؤلمةً حدثت في مجتمعاتٍ أو لأشخاص ، وأعتقدنا احيانا أنها من وحي الخيال ، حتى سمعناها من آبائنا وأجدادنا في مجالسهم -بأنهم عاشوا صراعاً مريراً لأجلِ البقاء – وكان شُغلهم الشاغل إيجاد ما يطعمون به أنفسهم وأهليهم لإنقاذهم من جحيم الجوع والعطش، فهل سمع هذا الجيل بالسنين العجاف التي ضربت البلاد؟ كسنة الرحمة وسنة الجوع ؟ غالباً لم يسمعوا بها ؛ لانشغالهم بأحداثِ جيلهم الذي جاء بأنماطٍ مختلفةٍ من رغد العيش والصِعاب ، دعوني أنقل لكم بعضاً من تلك المآسي التي عاشها أجدادُنا ، ففي عام ١٣٣٧ هجري ، تفشىَّ وباءٌ عظيمٌ عُرِف بالحمّى الإسبانية ،حصد أرواح الآلاف من البشر في العالم ،وعمَّ شبه الجزيرة العربية.
قرأتُ في صحيفة الجزيرة مقالاً لإبراهيم محمد القاضي يقول فيه : ” وفي هذه السنة أوقع الله بالجزيرة العربية كلها -البادية والحاضرة -مرض ، وانتقصت الجزيرة بنفوسٍ عديدة ( خزانة التواريخ النجدية) ، أطلق الأجداد على هذه السنة سنة الرحمة لكثرة مايتراحّمون على الموتى”
وفي عام ١٣٢٨ هجري ضربت نجد مجاعة سُميت بسنة الجوع ، مما اضطرّ الناس لأكل الجيف والجلود والعظام ، ودار الأطفال في الشوارع والطرق بحثًا عن نوى تمر يمتصونه ليخفف عنهم الجوع ، وأصبحت المنطقة في صدارةِ الأماكن الأكثر جوعاً في العالم ، رحل الكثير من أبناء هذه المناطق فراراً لبعض الدول المجاورة بحثًا عن الطعام ، ولا يزال الجوعُ والأوبئة تضرب هذه البلاد بين فترة وأخرى، ومنها ما وقع للناس من مرضٍ وجوع في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله – مما اضطره لإقامة مضايف للفقراء وبعضها للمرضى، كان من أشهرها مضيف ثليم ومضيف خريمس، التي يتوافد إليها المحتاجين من كل مكان ، كانت معاناة الناس كبيرة، ولا حيلة لهم في مواجهتها إلا الصبر والاحتساب.
ولكن من السنن الإلهية عدم دوام الحال على مرِّ التاريخ ، فقد عانى الناس الفقر والجوع على أرض هذه البلاد ، وما علموا أنَّ الخير مطمورٌ في باطنها ، لقد وهب الله هذه البلاد ثروةً عظيمة وهي النفط .
فلمّا رأى الملك عبدالعزيز -رحمه الله – ما كابده الناس من الفقرِ والحاجة في ظِّل الموارد التي تدخل خزينة الدولة ، سعى للبحث عن موردٍ جديد ، وبتوفيقٍ من الله ثم الجهودِ المبذولة ، تم اكتشاف الذهب الأسود (النفط) وكانت بالفعل أرضاً سخية بما تملك في جوفِها وما تحمل فوق ظهرها من كوادر بشرية ، اجتهدوا حتى وصلوا إلى عُمق السخاء فيها ، فكانت نقطة التحول التي أحدثت تغّيراً جذرياً في البلاد ، عندما وقّع الملك عبدالعزيز اتفاقيةً للتنقيب عن النفط مع شركة ستاندرد أويل أوف – كاليفورنيا (سوكال) – في الرابع من صفر من العام ١٣٥٢ هجري ،وكانت المحاولات الأولى للتنقيب عن النفط غير مجدية ، وبعد مضي أكثر من خمس سنوات من البحث ، تدفق النفط من بئر الدمام بكميات قليلة بما يعادل ١٥٨٥ برميل في اليوم ، وتم اكتشاف آبارٍ للنفط والغاز في كثير من مناطق البلاد تباعاً، وتم خلال ذلك حفر أطول خط أنابيب في العالم لتقليل التكلفة والوقت ،يعرف باسم التابلاين ويبلغ طوله ١٦٦٤ كم من المنطقة الشرقية إلى ميناء الزهراني على البحر الأبيض المتوسط في مدينة صيدا اللبنانية، بعد أن كانت السفن تقطع مسافة ٦٠٠٠ كم ، وكان مقر شركة ستاندر في نيويورك وأعيدت تسميتها إلى شركة الزيت العربية وتم نقل مقرها لاحقًا للظهران ، وبعد مضي ثمانين عاماً تحولت ملكية هذه الشركة للمملكة العربية السعودية ، وتم تغيير اسمها إلى أرامكو السعودية ،واصبحت المملكة من الدول الخمس المؤسسة لمنظمة الدول المصدرة للبترول أوبك ، لتكون من الدول العشرين الأقوى اقتصاداً بالعالم ،وذات تأثير كبيرٍ على القرارات الدولية ، وبعد الازدهار الاقتصادي الذي نقل البلاد نقلة نوعية نتيجة لاكتشاف النفط ، سعى المؤسس -رحمه الله -لنشر العلم بين الناس ، لإدراكه التام أن العلم سَيُحدثُ تحولاً جذرياً في المجتمع ، فحرص على تطويره ونقله من عهد الكتاتيب إلى مرحلة المؤسسات التعليمية ، وأمر بإنشاء مدارس البنين في القرى ، ودعمها بكوادر تعليمية جيدة ، وهُنا هبَّت رياح التغيير فحملت الكثير من الأبناء والفتيات للالتحاق بالمدارس الحكومية .
وأصبح الشباب شغوفًا بالدراسة والتعليم ، ووصل بهم الأمر للالتحاق بالبعثات خارج الوطن ،ليعودو بأعلى الشهادات التي تمكّنِهم من الصعود إلى سلّم الوظائف المرموقة، وتؤهلهم للأماكن التي لطالما حلموا بها ، ولإيمانِ حُكَّام هذه البلاد بأن المرأة هي عنصرٌ فعّالٌ في المجتمع ، فقد أولوها الاهتمام في كثيرٍ من الجوانب أهمَّها التعليم ، فبدأوا بافتتاح المدارس لتعليم الفتيات، معلنين بأن المرأة هي شريكٌ للرجل في التنمية والتطوير، فأصبح للفتاة الحق في الالتحاق بالمدارس والجامعات ، والعمل في مختلف المجالات التي لم تكن تعمل بها من قبل ، مثل عملها في مؤسسات الدولة ، فحققت الاستقلال المادي الذي مكَّنها من الاعتماد على ذاتها ، ومنحها القدرة على التغلب على التحديات التي تواجه المرأة في ذلك الوقت ، فتغيَّرت النظرة السابقة لها ، والتي ترى أن عملها لايخرج عن إعداد الطعام والشراب والإهتمام بالأطفال ، واستقلَّت المرأة دون أن تهدم جدار المجتمع الذي لطالما حافظ على بنيانه ، فأصبحت الطبيبة والمعلمة والمهندسة ، وشاركت في التنمية الشاملة لعجلة الوطن.
ويمكن القول بعد هذا التقدم الكبير الذي حدث في البلاد ؛ أن النفط لا يُعتبر وحده قائد التغيير ، وإن كان بالطبع قد سرّع وتيرته ورفع مستوى المعيشة، فهناك أيضًا التعليم وقادات البلاد وشعبها كلٌ غيّر في مجاله الذي وقف عليه، لذا فالنفط هو إضافةٌ لقوة الشعب السعودي المتكاتف ، الذي تشهد له أواصر الأوطان من مغرب هذهِ الارضِ إلى مشرقها، ولا تزال مملكتنا الغالية في تقدم كبير في عهد الملوك أبناء المؤسس إلى عهدنا الزاهر بقيادة ولي امرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله ، ومتعه بالصحة والعافية ، وكذلكم ملهم رؤية ٢٠٣٠ ولي العهد محمد بن سلمان بن عبد العزيز حفظه الله ، حتى اصبحنا نرى دولتنا في مصاف الدول العظمى ومن اقوى اقتصادات العالم ، فهنىيئا لنا بهم وهنيئا لهم بهذا الشعب العظيم .
سلطان عيد المرشدي