كُتاب الرأي

حكاية من واد القرى (بين عروة وعفراء)

محمد سعيد المرواني

حكاية من واد القرى (بين عروة وعفراء)

لو مررت يوماً بواد القرى في يومٍ ممطر، ستنعشك رائحة الغضا السحرية، التي تحمل في عبقها أنفاس عاشِقين، وربما عشّاق؛ ترعرعوا بين ردهات واد القرى.
لو حاولت نبش الثرى الممتلئ بذرات الماء النّدي، لشعرت بنبضات قلوب رقيقة، ذابت بالعشق كذوبان التربة النقية بحباتها الرملية مع قطرات المطر المنهمر .
لا كان ولا ياما كان ، إذا أنّه كان ولم يكن ، ذلك العشق الخالد ، الذي أرهق (عفراء) و (عروة) بل أودى بحياتهما .
ذات عشية استيقظ عروة على فقد والديه ، أو استيقظ الصباح على فقدهما ؛ إذ لم يكن عروة يشعر بما يحدث، ذلك الطفل الصغير اليتيم فقد كل شيء ، إلا أخواته اللاتي لا مناص لهن من الفقر والتشتت، كما هو متشتت.
لاح برق النجاة ، وأمل الحياة بوجود عم عروة بن حزام العذري ، فاحتضن الأسرة الضائعة ، وأنقذها من مخالب الفقر ، وعواصف الدهر ، وأدخل تلك العائلة منزل العمر. .
في بادية وادي القرى ، عاشت العائلتان ، كأسرة واحدة ، تطارد قطعان الإبل في النهار ، تفترش الأرض وتلتحف السماء ، وتأوي ليلاً إلى خيمة الأسرة الضيّقة، تتقاسم تحت ظلالها فتات الخبز اليابس. .
في زاوية الخيمة ترقد (عفراء) الطفلة الجميلة ، وفي الزاوية المقابلة يرقد (عروة) الصبي اللطيف الشهم .
تمر الأشهر وتقترب الزوايا ، تضيق الزوايا فتصبح زاوية واحدة تضم الطفلين (عفراء) و(عروة)،
تقاربت القلوب ، وتلاقت النظرات بين عفراء وعروة، نشأا سوياً ، لا يفترقان أبداً إلا لحظة النوم ، تصحو عفراء مبكرة فتجد عروة ينتظرها وقد استيقظ قبلها ، يلعبان في كل مجال ، ببراءة الأطفال حتى يحل المساء ، فيجلسان بجانب بعضهما البعض ، يتسامران ، ويتحدثان بلغة لا يفهمها الكبار
والد عفراء كثيرا مايردد عبارة ( عفراء سنزوجك عروة ، عفراء هل توافقين ؟ )
لا ترد عفراء وقد احمرّت وجنتاها الصافيتان،أما عروة فهو أكثر جرأة منها فيقول نعم ستوافق.
دارات السنوات ، وتوالت الأيام والليالي ، فاصبحت عفراء قادرة على إدراك المشاعر
لكنها بالطبع لا تستطيع البوح بما تشعر به ، نساء العرب لا تببحن بمشاعرهن .
أما عروة فإنه تقمص شخصية الزوج ، إذ أنّ هذه الفكرة قد تأصلت وتغلغلت داخله ، لدرجة أنه فقط ينتظر السنين تمر ،ويجمع مهر عفراء .
لم يصارح عفراء بما يكنّه من حب، لأنّه متأكد من مشاعرها ، ويبدو ذلك في كل تفاصيلها ، عيناها ؛ نظراتها ، ملامحها، كلماتها الحانية، نبراتها المتلهفة، اشتياقها المستمر ، خوفها الدائم على عروة ،
شبّ عروة وامتلأ عوده شباباً وحيوية ، حاول عروة ترجمة مشاعره المتوهجة، فتفجر الشعر العذري ، وشق ينبوعاً عذباً ، من الأشعار النابعة من الصميم.
يقول عروة :
كأنّ قطاةً عُلّقت بجناحها
على كبدي من شدّة الخفقان
كأن قطاة وهي طائر علقت بجناحها بكبد عروة وقامت ترفرف وتصفق الضلوع فيخفق قلبه كجناح تلك القطاة.
اشتعل العشق بقلب عروة، فصارحها بذلك الحب العميق ، فتهز عفراء رأسها قبولاً لتلك المشاعر الجياشة.
أخذ عروة يسقي عفراء من نهر الشعر العذب ، ويصدح بالأشعار الثائرة بين الحب والشكوى والعتاب :
يقول عروة :
متى تكشفا عنّي القميصَ تَبَيَّنا
بِيَ الضُّرَّ من عَفْراء يا فَتَيانِ
وَتَعْتَرِفا لَحْماً قليلاً وأَعْظُماً
دِقاقاً وَقَلْباً دائمَ الخَفَقانِ
على كَبدي من حُبِّ عفراءَ قَرْحةٌ
وعينايَ من وَجْدٍ بها تَكِفانِ
فَعَفْراءُ أَرْجي النّاسِ عندي مَوَدَّةً
وعفراءُ عَنّي المُعْرِضُ المُتَوَاني
أُحِبُّ ابْنَةَ العُذْرِيِّ حُبّاً وإِنْ نَأَتْ
ودانَيْتُ فيها غيرَ ما مُتَدانِ
إِذا رامَ قلبي هَجْرَها حالَ دونَهُ
شَفيعانِ من قَلْبي لها جَدِلانِ
وعندما بلغ الحب منتهاه ، أراد أن يحقق مبتغاه ، فتقدم لحبيبة القلب (عفراء) التي تنتظر قدوم هذا اليوم بفارغ الصبر، فعزم على ذلك وطلب يد عفراء من عمه، الذي وافق بلا تردد ، لكن صوتاً جاء من داخل خيمة الشعر ، يحمل في طياته الشر ، والخبر الأمرّ ، فقد صرخت أم عفراء بعدم الموافقة ، مهما كان.
وعند سؤالها عن سبب الرفض ، قالت بأنّه فقير معدم ، لا يستطيع دفع مهراً لعفراء ، ولن يستطيع تأمين أبسط الأشياء لها.
صاعقة مدمرة وقعت على العاشقين اللذين رسما حياتهما معاً، لم يستسلم عروة وأخذ يصارع أمواج الرفض وعمه ساكت لا يحرك ساكناً.
اشتد الالحاح من الفتى العاشق ، حتى واجهه عمه بالحقيقة وأنه لا يملك سوى ثمان نياق من الإبل ، ولا يمكن أن يقيم منزلا ويدفع مهرا.
غضب عروة وأقسم بأن يأتي بكل ما تطلبه عمته من مهر ، مهما كلفه الثمن.
لم يدرِ العم المكلوم ماذا يفعل بعروة، وكيف يقنعه بأن عمته لن تقبل، فقال لعروة هل تأتي بثمانين ناقة مهراُ لعفراء؟
فأجاب عروة قبل انتهاء السؤال نعم مئة وليست ثمانين .
لا يمكلك عروة سوى الثمانية نياق، لكنه قطع عهداً على نفسه بثمانين ناقة، ووعد عمه بإحضارها مقابل أن يمهله عدة سنوات فوافق العم.
أقبل عروة على عفراء وبشرها بما حدث ، وأخبرها بأنه قادرا على ذلك رغم أنه لا يملك سوى ثمان نياق.
يقول عروة :
يطالبني عمي ثمانين ناقةً
ومالي ياعفراء إلا ثمانيا
رحل عروة وعيناه تبرقان بالأمل وهو يقول ؛

يا عفْرُ إِنَّ الحيَّ قد نقضوا
عهدَ الإِلهِ وحاولوا الغدْرا

وتوجه لليمن حيث أبناء عمه وقيل توجه للشام ، المهم أنّه غاب سنوات، ثم عاد ومعه مئة ناقة جمعها لتكون مهراً لحبيبته عفراء ، عاد وهو يترنم بأشعار الشوق والحب ، مبتهج القريحة، مسرور القلب ، فقد قارب أن يحقق حلمه ، وأخيراً وصل لمرابع عفراء، ودارت الأخبار عن فتى يسوق مئة ناقة ، ويقترب من واد القرى ، وتتأكد الأخبار أنه (عروة بن حزام).
ولكن في غياب عروة لليالٍ طوال ، حدثت أخبار لا تسر البال ، فقد خان عمه الوعد ونقض العهد ، وزوّج عفراء مرغمةً لأحد التجار الكبار في الشام ، عندما كان يأتي بالبضائع لسوق (صعيد قُرْح) بوادي القرى ، رأى التاجر عفراء ، فأعجبه جمالها وأخلاقها وخطبها من والدها ، فتردد لكن أمها أصرّت عليه أن يزوجها ذلك التاجر الغني ، وعندما ذكّرها بوعده لعروة ، قالت: لا نعلم أحيً هو أم ميتاً ، هيا زوّج عفراء قبل أن نخسر هذا التاجر الكبير ، بانتظار عروة الفقير. فوافق وزوجها للتاجر ، وسار بها للشام.
قدم عروة والفرح يتهلل من وجهه، لقد وفى بوعده بل زاد على الثمانين وأتى بمئة ناقة .
اقترب عروة من واد القرى ، فضاقت نفس عمه ولم يدرِ ماذا يفعل؟ وماذا يقول لعروة؟ ففكر بحيلة رديئة ودنيئة ، ليته لم يفكر بها .
عندما أقبل عليه عروة أخذ يبكي ، وقد جدد قبراً قديما ، وقال ياعروة إن عفراء ماتت!
ذُهل عروة وخرت قواه، وكاد قلبه أن يقفز من بين ضلعيه ، وأسودّ وجهه، وفاضت عيناه بالدموع ، وأظلمت الدنيا أمامه، وخنقته عبرات القهر والحزن ، لكنه سأل عمه عن قبرها ، فأشار إليه ، ذهب عروة للقبر ، وعكف عليه ، يبكي ليلاً ونهاراً ، فقد فقد جزءاً من روحه، إنها عفراء شريكته وصديقته وحبيبته التي لايمكن أن يتخيل فراقها، فكيف وفاتها؟
وفي أثناء بكائه على القبر مر به أحد القوم وسأله ماذا يفعل ولماذا يبكي على هذا القبر العتيق ؟ فأجابه إنها عفراء. فدهش الرجل وقال من قال لك هذا؟ إن عفراء قد تزوجت ورحلت للشام.
هذه الصدمة الثالثة لعروة الذي كان شامخاً للصدمات ، لكنه في هذه المرة سقط مغشياً عليه ، ما بين مصدق ومكذب.
أفاق عروة من غيبوبته ، وسأل من سأل فكان الخبر صحيحاً :
يقول عروة :
فَيا ليتَ عَمِّي يومَ فرَّقَ بيننا
سُقيْ السُّمَّ ممزوجاً بِشَبِّ يَمانِ
بُنَيَّةُ عَمِّي حيلَ بيني وبينَها
وضَجَّ لِوَشْكِ الفُرْقَةِ الصُّرَدانِ
فَيا ليتَ مَحْيانا جميعاً ولَيْتَنا
إِذا نحنُ مُتْنا ضَمَّنا كَفَنانِ
ويا ليتَ أَنّا الدَّهْرَ في غيرِ ريبَةٍ
بَعيرانِ نَرْعى القفْرَ مُؤْتَلِفانِ
يُطَرِّدُنا الرُّعيانُ عنْ كُلِّ مَنْهَلٍ
يقولونَ بَكْرا عُرَّةٍ جَرِبانِ
إِذا نحنُ خِفْنا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَنا
رَدى الدَّهْرِ دانى بَيْنَنا قَرْنانِ
فَوَاللهِ ما حَدَّثْتُ سِرَّكِ صاحباً
أَخاً لي ولا فاهَتْ به الشَّفَتانِ
سِوى أَنَّني قد قُلْتُ يوماً لِصاحِبي
ضُحىً وقَلوصانا بنا تَخِدانِ
ضُحَيّاً وَمَسَّتْنا جَنوبٌ ضَعيفةٌ
نَسيمٌ لِرَيّاها بِنا خَفِقانِ
تَحَمَّلْتُ زَفْراتِ الضُّحى فَأَطْقْتُها
وما لي بِزَفْراتِ العَشِيِّ يَدانِ
فيا عَمِّ لا أُسْقِيتَ من ذي قَرابَةٍ
بِلالاً فقد زَلَّتْ بكَ القَدَمانِ
فأَنت ولم يَنْفَعْكَ فَرَّقْتَ بَيْنَنا
ونحنُ جَميعٌ شَعْبُنا مُتَدانِ
ومَنَّيْتَني عَفْراءَ حتى رَجَوْتُها
وشاعَ الذي مَنَّيْتَ كُلَّ مكانِ
مُنَعَّمَةٌ لم يأْتِ بين شَبابِها
ولا عَهْدِها بالثَّدْيِ غيرُ ثَمانِ
ترى بُرَتَيْ سِتَّ وستّين وافياً
تَهابانِ ساقَيْها فَتَنْفَصِمانِ
فَوَاللهِ لولا حُبُّ عفراءَ ما التقى
عَلَيَّ رواقا بيتِكِ الخَلِقانِ
وتوالت أشعار الفقد والوجد والحرقة؛
أُصَلّي فَأَبْكي في الصَّلاةِ لِذِكرِها
لِيَ الويْلُ مما يكتبُ المَلَكانِ
وقرر عروة أن يرى عفراء ، حتى لو قُتل دونها ، فجهز نفسه وانطلق للشام يطوي الفيافي ، ويقطع الأودية حتى وصل للبلقاء، حيث تسكن عفراء ، جلس عروة يتحسس لعفراء، حتى عرف مكانها ، وأدرك خوفها وأمانها ، والتقى بها في غياب الرجل البلقاوي من البلقاء ذلك التاجر الثري.
اختلطت الدموع بالأنين، والحزن بجثايا الفرح المقطوع، وقف عروة بين عاتب ومشفق على عفراء، سألها لماذا ترضين بغيري ؟ لم تجب عفراء إلا بسيل من الدموع تنهمر حلبة تلو الأخرى.
وحين كف عنها الهلع ، أخبرته أنها لا تملك من الأمر شيئاً.
تردد عروة على منزل عفراء ، حتى اكتشف زوجها وجودة ، وجلس له حتى أدركه ، لكنه لم يكن كما توقع عروة، فقد استقبله استقبالا باهراً ، عندما عرف أنه ابن عم عفراء ، وأكرمه وأحسن ضيافته ، ثم عمل حيلة ليكشف نواياه ، فقال ياعروة أعلم أن عفراء بمثابة أختك ، سأتركما غير بعيد ، لعلك تحمل أخباراً خاصة لعفراء ، ثم خرج وترك أحد عبيدة قريبا منهما ، وأوصاه أن يحفظ كل كلمة يقولانها ، جلس العبد قريباً منهما ، وبدأت كلمات العتب والحب تخرج منهما ، وتخرج البسمات المكسورة كما تخرج الشمس بين غيمات السحاب.
عاد الزوج بعد برهة من الزمن ، وسأل العبد عما دار بينهما ، فعرف كل شيء.
جاء الزوج ووقف أمام عروة ، وقال ياعروة لقد عرفت كل شيء الان. ولم أكن أعلم قبل ذلك ولكن. اسمع.،!
هذا أنت وهذه عفراء وأقسمت لك إن أرادت الذهاب معك لطلقتها الان ، وإن قالت غير ذلك فهذا عذري منك.
فكر عروة ثم فكر، ولكن شيمة البدوي الأصيل لاتقبل عرضاً كهذا ، فرفض كلامه جملة وتفصيلا ، واعتذر منه وأبلغه أنه لن يأت مرة أخرى ، ولن يعترض طريق عفراء.
عفراء بقلب يتقطع ألماً رمت على عروة قطعة قماش كانت تغطي بها وجهها ، ليكون ذكرى له.
ودع عروة عفراء بأنفة البدوي وكرامته ، وولى هائماً إلى واد القرى ، وبدت الحسرة تدب في قلبه الحزين ، والألم يعتصر قلبه ، وأصيب بحالة إغماء لا يفيق منها إلا إذا وضع قطعة القماش على وجهه ، يستنشق رايحة عفراء فيفيق
اشتد الكرب على عروة :
يقول عروة :
فَوَيْلي على عفراءَ وَيْلٌ كأَنَّهُ
على النَّحْرِ والأحشاء حَدُّ سِنانِ
أَلا حَبَّذا مِنْ حُبِّ عفراءَ مُلْتقى
نَعَمْ وألا لا حيث يَلْتَقِيانِ
وتارة يذكرها بالحب العميق :فيقول:
أَناسِيَةٌ عفراءُ ذكريَ بَعْدَما
تركتُ لها ذِكْراً بِكُلِّ مَكانِ
ألا لَعَنَ اللهُ الوُشاةُ وقَوْلَهُمْ
فُلانَةُ أَمْسَتْ خُلَّةً لِفُلانِ
استمر عروة ينشد الأشعار حتى دب المرض بجسمه : يقول؛
وإِنّي لَتَعْروني لِذِكْراكِ رِعْدَةٌ
لها بين جسمي والعِظامِ دَبيبُ
وما هُوَ إِلاّ أَنْ أَراها فُجاءَةً
فَأُبْهَتُ حتى ما أَكادُ أُجِيبُ
وَأُصْرَفُ عن رَأْيي الّذي كُنْتُ أَرْتَئي
وأَنسى الّذي حُدِّثْتُ ثُمَّ تَغيبُ
وَيُظْهِرُ قَلْبي عُذْرَها ويُعينها
عَلَيَّ فما لي في الفؤادِ نصيبُ
وقد عَلِمَتْ نفسي مكانَ شِفائِها
قَريباً وهل ما لا يُنالُ قريبُ
حَلَفْتُ بِرَكْبِ الرّاكعينَ لِرَبِّهِمْ
خشوعاً وفوقَ الرّاكعينَ رقيبُ
لَئِنْ كانَ بَرْدُ الماءِ عطشانَ صادِياً
إِليَّ حبيباً إِنَّها لَحَبيبُ
وَقُلْتُ لِعَرِّافِ اليَمامَةِ دَاوِنِي
فَإِنَّكَ إِنْ أَبْرَأْتَني لَطبيبُ
فما بِيَ من سُقْمٍ ولا طَيْفِ جِنَّةٍ
ولكنَّ عَمِّي الحِمْيَريِّ كَذوبُ
عَشِيَّةَ لا عفراءُ دانٍ ضرارُها
فَتُرجى ولا عفراءُ مِنْكَ قريبُ
فَلَسْتُ بِرائي الشمسَ إِلاّ ذَكَرْتُها
وآل إليَّ من هواكِ نصيبُ
ولا تُذْكَرُ الأَهْواءُ إلاّ ذكرتُها
ولا البُخْلُ إلاّ قلتُ سوف تُثيبُ
ساءت حالة عروة ، وأخذ يتعجب كيف يكون حياً بعد حبيبته :
وما عَجَبي مَوْتُ المُحِبِّينَ في الهوى
ولكنْ بقاءُ العاشقينَ عجيبُ

ويلقي اللوم على عمه الذي غدر به بعدما تعلق بعفراء :يقول؛
فيا عَمٌ يا ذا الغَدْرِ لا زِلْتَ مُبْتلّي
حليفاً لِهَمٍّ لازمٍ وهَوانِ
غَدَرْتَ وكانَ الغَدْرُ مِنْكَ سَجِيَّةً
فَأَلْزَمْتَ قلبي دائمَ الخفقانِ
وَأَوْرَثْتَني غَمَّاً وكَرْباً وحَسْرَةً
وأَوْرَثْتَ عيني دائمَ الهَمَلانِ
فلا زِلْتَ ذا شوقٍ إلى مَنْ هَويتَهُ
وقلبُكَ مقسومٌ بِكُلِّ مكانِ
مضت الليالي وحالة تزداد سوءاً ومرضاً، حتى بقي عظماً على جلد، غير قادر على الحركة ، فذهب صوته وسقمت حالته ، ولازال يهذي بعفراء، حتى انقطعت أنفاسه وفارق الحياة ، جثة هامدة بعد ما قاسى الألم الشديد.
علمت عفراء المسكينة من ركب التجار القادمين من واد القرى أنّ عروة قد مات ، وأبلغوها بنعبه ، لم تصدق ما حدث ، فقامت نوبات الهلع تقرص قلبها ، فأنشدت :
: ألا أيها الركب المجدون ويحكم
بحقٍّ لقيتم عروة بن حزامِ!
فإن كان حقًّا ما تقولون فاعلموا
بأن قد نعيتم بدر كل ظلامِ

فاستأذنت زوجها لتذهب للنوح على قبر حبيبها ، وقالت تعلم ما بيننا ، فإن أذنت لي فذلك جميل فقال لك ذلك.
انطلقت عفراء على ناقتها ، ومعها العبد ، حتى وصلت واد القرى :
فأدركت بأن الخبر سليما ، وسارت لقبره حزينة منكسرة ولما وصلت القبر : أغمي عليها ، ولما أفاقت قالت :

ألا أيها الركب المجدون ويحكم
بحق نعيتم عروة بن حزام؟
فإن كان حقاً ما تقولون فاعملوا
بأن قد نعيتم بدر كل ظلام
فلا تهنئ الفتيان بعدك لذة
ولا رجعوا من غيبة بسلام
وقل للحبالى لا ترجعي غائباً
ولا فرحاتٍ بعده بغلام
ولا, ولا بلغتم حيث وجهتم له
ونغضتم لذات كل طعام
وأغمي عليها مرة أخرى فلما أفاقت قالت:

عداني أن أزورك يا مرادي
معاشر كلهم واش حسود
أذاعوا ما علمت من الدواهي
وعابونا وما فيهم رشيد
فإما إذا حللت ببطن أرض
وقصر الناس كلهم اللحود
فلا بقيت لي الدنيا فواقاً
ولا لهم, ولا أثرى عديد
ثم فارقت الحياة ،وصعدت روحها الطاهرة إلى السماء، ودفنت بجوار حبيبها عروة بن حزام.
وانتهت قصة العشق التي تدمي القلوب.

محمد سعيد المرواني.

مراجع :
١-رسوم العشاق في واد القرى للكاتب
٢-تاريخ دمشق لابن عساكر.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى