ظلام الغربة وشمس الوطن

رحمه حمد
ظلام الغربة وشمس الوطن
الغربة تشبه الغروب، فكلاهما مفارقة. الغروب هو توديع يوم مشرق، مليء بالحياة، والغربة هي توديع سنوات مشرقة عامرة بالأهل، والحب، والأمان، والوطن، والذكريات. كلاهما فراق لما كان مضيئًا، واستعداد لاستقبال الظلام.
كلاهما مرور قسري بظلام قد يعقبه نهار مشرق، أو قد يطول أمده حتى يصبح سرمديًا لا نهاية له. المغترب لا يعيش غربة مادية خارجية فقط، بل يغترب داخليًا ونفسيًا أيضًا. فالأمر لا يتعلق بتغير البيئة، والمكان، والعادات، والتقاليد، واللغة، واللهجات، والطعام، والقوانين، بل إنه يمر بتحول داخلي كبير. يشعر بالخوف وعدم الأمان الناتج عن جهله بالمكان، وبالناس، وبالأعراف التي تحكمه. يخشى الرفض، وعدم القبول، والوحدة، والعزلة، والعجز عن الانتماء.
يعيش المغترب صراعًا نفسيًا داخليًا؛ إذ يجد نفسه مضطرًا لهدم ذاته، ومعتقداته، وأفكاره، ثم إعادة بنائها وتشكيل هوية جديدة تتناسب مع مكانه الجديد. قد يشعر بأنه في معركة بين الاستسلام والتكيف، أو المقاومة والبقاء على ما هو عليه. قد يحاول أن يهدم ذاته ويبنيها من جديد، بالتخلي عن معتقداته ومبادئه ليندمج في المجتمع الجديد، لكنه يُفاجأ بين الحين والآخر بأنه يُعامل كأنه لا شيء، فيخسر نفسه مرتين.
في الغربة، أنت مجبر على أن تعيش الضعف، والعجز، وقلة الحيلة. فلا سند لك ولا معين. تصبح محدود الخيارات، ترضى بالقليل ماديًا، وحتى أحلامك تغدو ضيقة ومحدودة. في الغربة، تفقد الإحساس بالزمن، وتعيش الضيق المادي والمعنوي. تفقد حقك في المطالبة بالمساواة مع من حولك، فأنت غريب، والغربة سلطان جائر، يقتلك يوميًا ألف مرة، وكأنها تسعى إلى تدميرك داخليًا وخارجيًا. الحياة في الغربة مصممة لخدمة الآخرين من حولك، لكنها لا تخدمك أنت، فالمكان قد يرفضك ويخدم أبناءه فقط.
في الغربة قد تُنتهك جسديًا ونفسيًا، حتى اسمك قد يكون مستهجنًا وغير مستساغ.
في الغربة، تغرب شمس روحك، وتظلم في مكان مشرق، لكنه يعجز عن إنارتك من الداخل.
تصبح وحيدًا، معزولًا، فالغربة قد تسلبك كل شيء، لتجد نفسك مضطرًا إلى صنع نفسك من جديد.
لكن شعورك بالغربة والوحدة يجعلك تفكر في نفسك بعمق، مما يتيح لك فرصة ثمينة لإعادة بناء ذاتك. قد يساعدك فهم القوانين والأنظمة في بلد إقامتك على إحداث تحولات جذرية، فتشرق روحك من جديد، وتصبح كل الأماكن وطنًا لك، يضيئها نور ينبعث من داخلك.
سلاحك الأول في الغربة هو محاربة الجهل، والمعرفة بالناس، والطبائع، والقوانين، والأنظمة. عليك أن تحقق النجاح دون إفراط أو تفريط، حتى لا تفقد هويتك الأساسية، ولا تذوب في هوية لا تناسبك. الغربة قد تهدمك تمامًا، لكنها قد تكون فرصة لإعادة بناء نفسك، كدودة تناضل داخل شرنقتها، إما لتخرج فراشة جميلة، أو أن تبقى حبيسة حتى تذبل وتموت.
والحياة الدنيا ما هي إلا غربة مقدّرة على البشر، فمع كل حالة موت، نقول: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، وهذا إقرار منا بأننا غرباء. فقد جئنا من عند الله وإليه نعود. وقد قال النبي ﷺ: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”. علينا أن ندرك أننا مسافرون، وأن هذه الحياة ليست وطننا ولا مستقرًّا لنا. فلا ننغمس في مادياتها، بل نتسلح بالعلم والمعرفة الإلهية، لنجد نورنا الداخلي، الذي يمكننا من العودة إلى حيث ننتمي: إلى جنة الله، التي لا يجدها من سكنت الظلمة روحه.
كاتبة رأي
👍👍👍👍