كلنا نقاد ولا نرى إلا ما يُعجبنا

كلنا نقاد ولا نرى إلا ما يُعجبنا
الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، فهي مدرسة مليئة بالدروس؛ منها ما يمر مرور الكرام، ومنها ما يترك فينا أثرا لا يُمحى، ومنها ما يغيّر قناعاتنا ويعيد ترتيب أفكارنا.
وفي خضم هذا الزخم، تميل النفس البشرية بطبعها إلى إطلاق الأحكام على الآخرين، خاصة حينما نكون في موقع بعيد عن المسؤولية.
لكن السؤال الذي يستحق أن يُطرح دائما: هل ستظل أحكامنا كما هي لو كنا مكان مَن ننتقدهم؟
في ذاكرة التاريخ، تلمع سيرة ابن الهيثم، العالم الذي بزغ نجمه في الفلك والرياضيات والبصريات، وجاء إلى مصر بدعوة من الحاكم بأمر الله الفاطمي بعد أن قدّم له مشروعا جريئا لضبط فيضانات النيل ببناء سد يحجز المياه.
ولكن عندما اقترب من النهر، ودرسه بعين المتأمل، أدرك استحالة تنفيذ فكرته في ظل الإمكانيات المحدودة في ذلك العصر.
وعندما واجه الحاكم بهذه الحقيقة، قوبل بغضب وعداء، مما دفعه لادعاء الجنون اتقاءً لبطشه، وفُرضت عليه الإقامة الجبرية.
تلك الحكاية القديمة تُسقط ظلالها الثقيلة على واقعنا اليوم؛ فكم من الأحكام نصدرها على الآخرين دون إدراك للتفاصيل؟ وكم من أفكار رُفضت، لا لضعفها، بل لقصور في الفهم أو تعجّل في الرد؟
النقد اليوم أصبح حاضرا في كل مجلس ومنشور وتعليق ووسيلة تواصل.
نراه بين جماهير كرة القدم، ينهالون على اللاعبين والمدربين دون أن تطأ أقدامهم أرض الملعب، ونلمحه بين الأزواج، وفي أروقة الإدارات، وعلى ألسنة مَن لم يجرّبوا المعاناة الفعلية، بل اكتفوا بمقاعد المتفرجين.
حدثني مسؤول سابق بإحدى الجهات الرقابية عن تجربة غيّرت نظرته بالكامل، فقال:
“كنتُ أنتقد جهازا حكوميا بشدة، وأطالب بمحاسبة مديره وإدارته واستبدال موظفيه، وكنت أرى أنهم مقصرون بلا عذر.
ثم شاءت الأقدار أن أُكلف بإدارة هذا الجهاز نفسه، ووجدت نفسي أمام ذات الملفات والتحديات.
هنا فقط أدركت أن تنظيري السابق لم يكن سوى مثاليات بعيدة عن الواقع، فما كنت أراه سهلا من الخارج، كان في حقيقته أمرا مركبا ومعقدا من الداخل”.
ليس المقصود هنا خنق صوت النقد، بل توجيهه.
فالنقد الصادق المنصف هو عصب التطور والتطوير، أما النقد الجاهل و المتعجل فهو معول هدم لا يرحم.
فكثيرا ما نكتشف عند خوضنا في الميدان أن الأحكام التي أطلقناها لم تكن صحيحة، وأن بين الأبيض والأسود مساحات رمادية شاسعة لا نراها إلا من الداخل.
أذكر موقفا غريبا حدث قبل أربعين عاما في إدارة تعليمية، حين طلب أحد مديري المدارس دعما لمعلمين، فجاء الرد من المسؤول الكبير شرحا على خطابه:
“يكلّف معلّم الدين بتدريس مادة التربية البدنية”، وكان ذلك المعلّم كفيفا.
فما كان منه إلا أن كتب ساخرا لذلك المسؤول الكبير: “آمل أن تُوفّروا لي كرة بأجراس لأتابع حركة الطلاب”.
هذا المثال الساخر ضربة قوية لأولئك الذين يصدرون قراراتهم دون فهم الواقع، أو اعتبار لما قد يبدو بديهيا من خلف المكاتب، ولكنه عبثي وغير منطقي على أرض الواقع.
إن التسرع في النقد دون علم ولا تجربة هو أحد أمراضنا الاجتماعية اليوم.
ولعلنا لو تأملنا في قول الشافعي رحمه الله: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، لخفّت حدّة خلافاتنا، وتجنّبنا كثيرا من الاندفاع والتحامل على الآخرين.
فهذه المقولة ليست مجرد عبارة، بل مبدأ فكري يُعلّمنا أن ننتقد بتواضع لا بتعال، وأن نناقش بروح الباحث لا بروح الخصم.
علينا أن نتذكر دائما أن لكل قرار ظروفه، ولكل إجراء خلفياته، وليس كل تقصير ناتجا عن جهل أو كسل، بل قد يكون ناتجا عن قيود ومصاعب لا نعلمها.
وحين نمارس النقد، ينبغي أن نحترم الحقيقة، ونتجنب التعميم، ونمنح أنفسنا فرصة الرجوع عن الخطأ إن اتضح لنا خطأ ما كنا نظن.
النقد البنّاء هو ما يضيء الطريق، لا ما يضع العثرات.
هو ما يصحّح المسار، لا ما يشوّه النوايا.
هو ما يدفعنا جميعا – أفرادا ومؤسسات – نحو الأفضل، بشرط أن يكون نابعا من فهم للواقع، لا من هوى وتصفية حسابات.
إن مجتمعنا الذي بدأ يتنفس هواء الحرية الفكرية بعد سنوات طويلة من القيود، بحاجة ماسّة إلى ناقد عادل لا ناقد جاحد، إلى قلم صادق لا يدٌ ترتجف، إلى كلمة تُصلح لا إلى كلمة تجرح.
بهذا الوعي، يصبح نقدنا أداة قوية، تفتح آفاق التغيير، وتقودنا نحو المستقبل بعزم لا يلين، ونؤسس لثقافة من التطوير المستمر والارتقاء بالفكر.
فالنقد الحقيقي هو سيف يقطع أصفاد الجمود، ويشعل الثورات الفكرية التي تدفعنا إلى الأمام، بعيدا عن الضياع في متاهات الماضي.
والنقد البنّاء لا يقتصر على التعرية السطحية للأخطاء، بل هو أداة لتحدي الواقع وكسر القيود التي تحبس الفكر.
هو دعوة للبحث العميق، والتمرد على المألوف، والتطلع إلى غد أفضل.
فمن خلال نقدنا الناضج، نبني مجتمعا يواجه تحدياته بجرأة، ويستشرف مستقبله بعقلية منفتحة، دون خوف من الفشل أو التراجع، ويصبح النقد في هذه الحالة قوة تدفعنا نحو الابتكار، وليس أداة لتمزيق روابطنا الاجتماعية أو إضعاف عزائم الأفراد.
في خضم هذا الزخم، تميل النفس البشرية بطبعها إلى إطلاق الأحكام على الآخرين، خاصة حينما نكون في موقع بعيد عن المسؤولية.
لكن السؤال الذي يستحق أن يُطرح دائما: هل ستظل أحكامنا كما هي لو كنا مكان مَن ننتقدهم؟
فكم من الأحكام نصدرها على الآخرين دون إدراك للتفاصيل؟ وكم من أفكار رُفضت، لا لضعفها، بل لقصور في الفهم أو تعجّل في الرد؟
….
النقد اليوم نراه بين جماهير كرة القدم، ينهالون على اللاعبين والمدربين دون أن تطأ أقدامهم أرض الملعب، ونلمحه بين الأزواج، وفي أروقة الإدارات، وعلى ألسنة مَن لم يجرّبوا المعاناة الفعلية، بل اكتفوا بمقاعد المتفرجين ….الخ
ليس المقصود هنا خنق صوت النقد، بل توجيهه.
👍👍👍
لله درك ! ما أروعه من كلام يحكي واقعنا👌
لافض فوك أستاذنا محمد الفريدي ، لقد ذكرت مافي قلوبنا وكأنك تقرأها👍