كُتاب الرأي

يأملون ويتألمون..

 

يأملون ويتألمون..

في رحلة الحياة الطويلة، تتقلب مشاعر الإنسان بين الأمل والألم، بين الرجاء والخوف، بين الطموح والخذلان. فكل إنسان، على اختلاف جنسه أو لغته أو عمره، يحمل في قلبه أمنيات يتمنى تحققها، وأوجاعًا يحاول أن يخفيها أو يتجاوزها.
وفي قلب كل إنسان ساحة صراع صامتة، يقف فيها الألم والأمل وجهًا لوجه، لا ليتقاتلا، بل ليتوازنا. فمن لم يعرف الألم، لم يعرف قيمة الأمل. ومن غرق في الأمل دون أن يتذوق مرارة الواقع، عاش وهمًا هشًّا.
فريدريك نيتشه لديه فلسفة جميلة في الألم والأمل فيقول: “من لديه سببٌ للعيش، يمكنه تحمّل أيّ كيف.”
أما باولو كويلو فيرى في أن الهدية دائما ما تعقب الألم فيقول: “لا يوجد ألم لا يحمل في طياته هدية… فالألم يأتي ليعلمنا”
إن الألم ليس عدوًا للمشاعر، بل هو مُرشد. يقودنا إلى أنفسنا، إلى ذاتنا، ويكشف هشاشتنا، ليعيد بناءنا من جديد. ليجعلنا نصحح مساراتنا، لنعالج أساليب خطانا، هو ذلك النصل الذي يشقّ غلاف الروح حتى تنبت فيها بذور الحكمة.
أما الأمل، فهو الضوء الخافت الذي لا ينطفئ حتى في أكثر الليالي عتمة. ليس مجرد أمنية، بل هو إيمان بأن ما نعيشه اليوم، مهما اشتدّ سواده، يحمل في داخله نواة فجر قادم، وهو الوقود الذي يدفع الناس للمضي قُدمًا، وهو النور الذي يُبدد ظلمات اليأس. متى ما سكن القلب، أضاءه، ومتى ما غاب، حلّ الظلام. يقول الشاعر إيليا أبو ماضي:
قالَ: السعادةُ في ثلاثٍ: أملٌ
يُرجى، وعيشٌ بالرضا يُكتفى
في هذا التوازن الدقيق، نكتشف الحياة كما هي: رحلة لا تخلو من الشوك، لكنها تمضي، ويمضي معها القلب، يتعلّم، ينكسر، ثم ينهض من جديد، ويقول مصطفى صادق الرافعي: “ما أشدّ الألم في أن يُولد الأمل من رحم الحزن، فلا هو فرحٌ تام، ولا هو يأسٌ يُنسى.”
إن أجمل ما يعيشه الإنسان أن يعيش على أملٍ في غدٍ أفضل وأجمل، وفي نجاحٍ آتٍ، وفي فرَجٍ قريب، مهما كانت الصعاب. الأمل يجعل الطالب يدرس، والمريض يصبر، والمظلوم يطرق باب العدالة، ولكن في مقابل ذلك الشعور، يحضر الألم ليكون جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية. فلا يخلو أحد من حزنٍ مرّ به، أو فقدٍ أثقله، أو خيبةٍ هزّت قلبه. وقد عبّر المتنبي عن عمق الألم بقوله:
مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ
وللدهرِ أهوالٌ تمرُّ وتُنقضِي
ويقول إيليا أبو ماضي في ذلك السياق “كن جميلاً ترى الوجود جميلاً، ولا تقل قد ذهبت أربابه، كل من سار على الدرب وصل.”رغم قسوة الألم، فهو ليس شرًّا محضًا، بل قد يكون سببًا في النضج والنهوض. فقد يولّد الألم عزيمة لا تلين، ويخرج من رحم المعاناة إبداعٌ أو حكمة.
والحق أن الإنسان لا يستطيع العيش بلا أمل، ولا يتعلم بلا ألم. هما رفيقا دربٍ واحد، يكمل أحدهما الآخر. في لحظات الألم، يتعلّق الإنسان بالأمل، وفي لحظات الأمل، يتذكّر ما تجاوز من ألم. يقول الشاعر:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت، وكنت أظنها لا تُفرجُ
هذا التوازن بين الأمل والألم هو ما يصنع الإنسان المتماسك، القادر على مواجهة الحياة. فمن لا يعرف الأمل ييأس، ومن لا يذق الألم لا يتعلم. وعلى الإنسان أن يظل متمسكًا بالأمل، مهما اشتدّ الألم، لأن بعد كل ليلٍ فجر، وبعد كل محنةٍ منحة، ولكن المؤمن الحق لا يستسلم لليأس، لأنه يعلم أن مع كل ألم، هناك أمل، وأن الله -سبحانه وتعالى- لا يبتلي عبده عبثًا، بل لحكمة ورحمة، وأن حسن الظن بالله هو مفتاح الفرج وراحة القلب. (الألم… جزء من الابتلاء)
إننا ندرك جميعنا أن الله خلق الدنيا دار ابتلاء واختبار، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]. فالمسلم قد يهاجمه الألم، في ظل توهج الأمل، فيتعرض للتحديات والصعاب، فيصاب بالوهن، ولكن العقول الواعية تدرك أن ما يصيب الانسان لم يكن ليخطئه، وأن الألم مهما طال، إلا أنه مؤقت، فالرحمن الرحيم يكنفنا برحماته، والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة. والمؤمن يدرك أن الأمل… رجاء لا ينقطع، وهو يحارب اليأس بحسن ظنه بالله، لأن في قلبه نور الأمل، ويثق بأن الله قادر على كل شيء. قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 23]. ويُعلمنا القرآن أن بعد كل ضيق فرجًا، وبعد كل عسر يسرًا، كما قال سبحانه: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾.
وختاما حسن الظن بالله… مفتاح الطمأنينة وهو من أعظم ما يثبت المسلم عند الشدائد هو حسن الظن بالله. فالمؤمن لا يظن بربه إلا خيرًا، ويوقن أن الله أرحم به من أمه، وأنه سيعوضه خيرًا، ولو بعد حين، وقال النبي ﷺ: “أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء” [رواه مسلم]، وحسن الظن يدفع المؤمن للعمل، فلا يركن إلى التواكل، بل يسعى ويجتهد، وهو متيقن أن الله لن يضيعه، فلنسعى جميعنا أن نمتطي جناح الأمل، ونتحمل الألم لكي نمضي في حياتنا بسلام..

              بقلم د. عبدالرحمن الوعلان (معد برامج تلفزيونية وكاتب )

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى