كُتاب الرأي

حواراتنا شيل أبوك حط أبوك

محمد الفريدي

ما دعاني لكتابة هذا المقال هو ما حدث بالأمس حين التأم شمل مجموعةٍ من أصدقائي في مجلسٍ واحد، وكلٌّ واحد منهم بفكره ومعتقداته وعقليته وثقافته، وبدأ حديثنا وديًّا، ولكنه سرعان ما تحول إلى (مناحله) ومشادةٍ كلاميةٍ حامية، وارتفعت الأصوات، وتطاول الجميع بالألفاظ على بعضهم البعض، وامتلأ الجو بالاستهزاء والسخرية من الأفكار والآراء، وكل ذلك لمجرد اختلاف وجهات النظر حول قضية معينة، وأصرّ كلّ واحدٍ على رأيه، رافضًا الاستماع للآخر، ومتشبثًا بأفكاره كأنها حقائق مطلقة لا تقبل النقاش، وبدلاً من أن يكون الاختلاف نقطةَ قوةٍ وإثراءٍ لأفكار الجميع، أصبح سببًا للفرقة والتنافر.
وخسرنا في النهاية لذة الحوار ودفء الصداقة، ولم يربح من كل هذا سوى التعنت والجمود، والفرقة التي ستستمر إلى الأبد.

كثير من أبناء مجتمعنا يتشنجون، ويتغيرون تمامًا عندما نختلف معهم في الرأي، ويحولون هذا الاختلاف إلى سبب للقطيعة والسخرية والتسفيه.

للأسف، تربينا على فكرة الغلبة والانتصار على الآخرين حتى في عرض آرائنا وأفكارنا، وأصبحت حواراتنا غير متكافئة، يسيطر عليها الأكثر صياحًا وصراخًا وتشكيكًا في نيات الطرف الآخر، ومن لا يمنح الآخرين فرصة للتعبير عن آرائهم يُعتبر المنتصر، ورأيه يُعتبر الصواب.

أعتقد أن جذور هذا السلوك المشين يعود إلى تربيتنا الاستبدادية ومفاهيمنا الثقافية التي نشأنا عليها، ولا أعلم من هو الذي زرع فينا فكرة أن الانتصار في الرأي لا يتحقق إلا بإسكات الطرف الآخر وإفحامه باستخدام القوة الصوتية والاتهامات المتسرعة بالتشكيك في النيات.

في هذه البيئة غير الطبيعية، و غير الصحية، تحولت حواراتنا إلى أداة للغلبة بدلاً من أن تكون وسيلة للتفاهم والتنوع، وأصبحت نقاشاتنا عبارة عن صراعات تتسم بالحدة والتشنج والعدوانية.

العالم كله يستمتع، ويبدع بالاختلاف، و نحن لم ندرك بعد أن اختلافنا في الآراء أو الأفكار لا يعني اختلافنا مع الأشخاص الذين يتبنون هذه الآراء.
هذا الخلط بين الفكرة وحاملها أدى إلى توترات وانقسامات عميقة في مجتمعنا، وأصبحنا نحكم على الأشخاص بناءً على آرائهم وأفكارهم التي تتعارض مع آرائنا، بل ولا ننظر إليهم فوق ذلك كإخوة ومواطنين يشاركوننا الحياة والمصير والوطن والإنسانية.

يجب أن نفرق بين ثقافة الاختلاف وثقافة الخلاف، فما نحبه أو نؤمن به قد لا يعجب الآخرين أو يتوافق مع معتقداتهم، ويجب أن نعتبر التنوع في الأفكار مصدرًا للقوة والإثراء، وليس تهديدًا أو عدوًا لنا يجب القضاء عليه.

إن الاختلاف فن، والتعبير عنه يتطلب أدبًا وحسن تعامل، والقدرة على اختيار الوقت المناسب لطرح آرائنا وانتقاء الكلمات التي تحترم مشاعر الآخرين هي ما يميز بين نقاشنا المثمر والمدمر، وطرح وجهة نظرنا بأسلوب محترم يفسح المجال لحوار متوازن متزن، وهذا هو جوهر فن الحوار الحقيقي.

عندما نتحدث عن احترام الآراء المختلفة، فإننا لا ندعو إلى التخلي عن مبادئنا أو أفكارنا، بل ندعو إلى التعلم من الآخرين والانفتاح على آفاق جديدة من التفكير، فالنقاشات التي تتسم بالاحترام والتقدير تسهم في بناء مجتمع متحضر قادر على التعايش السلمي مع التعددية الفكرية، وينبع هذا الاحترام من الاعتراف بأن للشخص الآخر الحق في رأيه الخاص، حتى وإن اختلف مع آرائنا.

العالم اليوم يتقدم بفضل الاختلافات الفكرية التي تفرز التنوع والإبداع، والتفكير المغاير والتحدي الفكري هما القوة المحركة للابتكار والتطور في المجتمعات، وكلما زادت قدرتنا على تقبل الاختلاف، زادت فرصتنا للتعلم واكتساب المعارف الجديدة، و نحن إذا اختلفنا في الآراء على الفور ما عندنا إلا (شيل أبوك حط أبوك)، و (رتع).

العالم لم يتحسن بتوحيد الآراء والأفكار، بل تطور من خلال النقاش المستمر والاحترام المتبادل للأفكار المتنوعة، وبفضل الاختلاف، استطاع أن يميز بين الخطأ والصواب، وأن يصل إلى حلول جديدة لمشكلات كثيرة ومعقدة.

إن الاعتراف بالاختلاف وتقبله يتطلب منا شجاعة ونضجًا، وعدم اتفاقنا مع رأي شخص آخر لا يعني أننا نكرهه أو نرفضه كشخص، بل يمكن أن يكون اختلافنا معه نقطة انطلاق لتفاهم أعمق واحترام متبادل، ﻭ صداقة دائمة، فالحوار المبني على الاحترام يمكن أن يكون جسرًا يربط بين القلوب بدلاً من أن يكون سيفًا يبتر أطراف العلاقات.

ما نحتاج إليه الآن هو تبني ثقافة جديدة ترى في الاختلاف فرصة للنمو والتطور، وليس تهديدًا يجب التخلص منه.
علينا أن نعلم أنفسنا وأطفالنا أن الاختلاف في الرأي ليس أمرًا سيئًا، ولا انهزامًا، بل هو جزء أساسي من حياتنا الاجتماعية والفكرية، ويجب أن نستمع للآخرين بصدر رحب، ونعبر عن آرائنا بأسلوب لا يجرح، ولا يؤذي، بل يفتح آفاق الحوار، ويبني جسور المحبة والتعاون بين الناس.

أخيرًا، يجب أن نضع في اعتبارنا أن الاحترام المتبادل هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع القوي والمتماسك، و إذا تمكننا من غرس هذه القيم في أنفسنا، وفي أبنائنا ومجتمعنا، سنكون قادرين على تحويل الاختلاف من مصدر للانقسام إلى مصدر للإثراء والتقدم والتنوع والابتكار، ونحن في النهاية جميعنا بشر نشترك في الوطن والإنسانية والحياة والمصير، ولو اختلفت آراؤنا حول مسألة معينة فما يجمعنا في هذا الوطن يفوق بكثير ما يفرقنا.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫6 تعليقات

  1. بارك الله في قولك أستاذ . محمد..
    فعلا نحن نفتقد كثيرا إلى لغة الحوار .. نفتقد تقبل الرأي الاخر …
    البعض يتقلد ثقافة إن لم تكن معي فإنك ضدي …

    1. الأستاذة خديجة ، بارك الله فيكِ وفي مداخلتك القيّمة، و كلامك استاذة في غاية الأهمية، فنحن بالفعل بحاجة ماسة إلى لغة الحوار وتقبل الرأي الآخر.
      ثقافة “إن لم تكن معي فأنت ضدي” هي مع الأسف تحد كبير يواجهنا جميعا. الأمل يكمن في تعزيز الوعي بأهمية الاستماع وفهم وجهات النظر المختلفة، حتى نتمكن من بناء مجتمع متماسك يقدر التنوع والاختلاف ، و تقبلي تحياتي.
      أخوكم
      أبو سلطان

  2. فعلا أستاذ محمد هذا مايجري في مجالسنا
    حتى بين الإخوه والرفاق
    أصبح النقاش سبب في فقد الود واللطف
    قل ماتجد شخص يحترم رأي الأخر
    هذا ما دفعني في أيامي هذه أن أتجنب الحوار في جمع من الناس أحاور فقط شخص يفهمني ويأخذ ويعطي بتقدير واحترام

    1. أستاذة نعيمة، كلامك صحيح 100% ومؤلم في الوقت نفسه ، أصبحنا نرى بالفعل في كثير من المجالس أن النقاش يتحول إلى سبب لفقدان الود والاحترام بين الإخوة والأصدقاء، ويبدو أن احترام الرأي الآخر أصبح بيننا عملة نادرة، مما دفع الكثيرين، كما ذكرتِ، إلى تجنب الحوارات الجماعية والبحث عن حوارات هادئة مع أشخاص يتسمون بالاحترام والتقدير .
      هذا الموقف مرفوض تماما، فالراحة النفسية والاحترام المتبادل هما الأساس لأي حوار مثمر وبناء.
      شكرا، وأسعدني مروركِ من هنا، أستاذة و تقبلي تحياتي .
      أخوكم
      أبو سلطان

  3. صراحة استاذنا محمد لي فترة انسحب من النقاشات العقيمة التي تتعب ولا تسمن ولاتغني من جوع وكلنا يتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم انا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وان كان محقا والمراء هو المجادلة والمخاصمة في بيان الحق ،

    1. أستاذ سلطان، أوافقك الرأي تماما ، في كثير من الأحيان، النقاشات التي لا تؤدي إلى نتائج بناءة تكون مجهدة ومرهقة، وربما تؤدي إلى مزيد من التفرقة والتنافر. وكما ذكرت، فإن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو تذكير ثمين لنا بالابتعاد عن الجدال الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، هو الخيار الأفضل، حتى وإن كان الإنسان على حق.
      المهم في النهاية هو السعي نحو الوحدة والاحترام المتبادل، وأن نكون قدوة في تعزيز السلم والمحبة في مجتمعنا، و تقبل تحياتي.
      أخوكم
      أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى