الهدايا… حين يكشف العطاء جوهر النفوس
الهدايا… حين يكشف العطاء جوهر النفوس
الدكتورة سارة الأزوري
جدتي نور – رحمها الله – كانت تردد دائمًا: “يفرح بالهدية من لا يرد جزاها”. كنت أسمع عبارتها في طفولتي كجملة عابرة، ولم أفطن إلى عمقها إلا حين كبرت وعصفت بي تجارب الحياة. عندها استوعبت كيف أن بعض النفوس تُشبه الأواني الفارغة، لا تمتلئ مهما صُب فيها، ولا تفيض يومًا على غيرها.
في قريتنا كان الناس يصفون أولئك الذين فقدوا الحياء وألفوا الأخذ بلا عطاء بأنهم : “غاسلين وجوههم بمرقة”. تعبير ساخر لكنه صادق،
لأن هؤلاء يطيرون فرحًا إذا ما قُدمت لهم هدية، وكأنهم ظفروا بغنيمة، لكنك لا تجد في قلوبهم ميلًا لرد المعروف، ولا حتى بكلمة طيبة. يلتقطون الهدايا كما يلتقط العابر ثم ينسى، فلا أثر في نفوسهم ولا ارتداد في مشاعرهم.
وما هو أشدّ وقعًا على النفس أن ترى من يتعنّى ويتكلف، يفتش طويلًا، ويصرف من وقته وجهده، وربما من رزقه الكثير ، ليأتي بهدية يظنها أجمل ما يملك. يقدّمها وهو يضع قلبه على كفّه، منتظرًا بريق الامتنان في عين الآخر. فإذا بها تُستقبل ببرود، وربما احتقار، لأنها لم تبلغ مستوى طموح المتلقي. وقد تُلقى بعد ذلك جانبًا، أو تُسلَّم لخادم، أو تُدفع لمتسول عابر.
هنا تتحول الهدية من رمز للمحبة، إلى ندبة عميقة تثقل روح من قدّمها.
وفي ذات الوقت نرى من يبذل قصارى جهده ويصرف الغالي والنفيس ليُهدي، ليس حبا، بل نفاقا ورياءً، طمعًا في منصب أو مكانة يتزلف بها. لا يهدي ليرسم ابتسامة صادقة بل ليظهر ولاءً
كاذبًا. فإذا ما انقضت المصلحة، قلب المجن، وأدار ظهره، وكأن شيئًا لم يكن…
عندها تفقد الهدية معناها، وتصبح مجرد قناع بارد لا يخلّف في القلب سوى مرارة.
وفي مقابل هؤلاء جميعًا، يظل هناك صنف آخر يردّ للهدية معناها النقي. نفوس رقيقة تقدّر العطاءات كيفما جاءت، صغيرة كانت الهدية أو كبيرة، متواضعة أو ثمينة. يرون فيها فعل تذكر، لا قيمة سوقية. يكفيهم أن يخطر اسمهم في بال أحدهم، فيشعرون بامتنان عميق يردّد في أعماقهم القول الجميل: “من ذكرني ما حقرني”. هؤلاء لا يحصون أثمان الهدايا، بل يحفظون لحظاتها، ويشكرون أن كانوا حاضرين في وعي الآخرين. ولذا تظل الهدايا عندهم مواقف تُخلّد بالعرفان، لا أشياء تُقاس بالثمن.
الهدية ليست دائمًا صندوقًا مغلفًا بورق سوليفان ..لكنها قد تكون يدًا تُمسك بيد حزين، أو نصيحة صافية تضيء عتمة عقل، أو كلمة حق تُقال في وجه باطل، أو وقفة صادقة بجانب من يحتاج إلى دعم. وقد تكون درعًا تُرفع لصدّ ظلمٍ عن مظلوم، أو ابتسامة صافية تُزرع في وجه مهموم فتبدد ما تراكم عليه من غبار الحزن. كل ذلك هدايا، وربما كان أثرها أعمق من أثمن الجواهر.
الهدايا في حقيقتها بساتين تنبت في القلب زهورًا، وتذيب ببهجتها يباس القلوب. هي ليست في حجمها ولا في ثمنها، بل في صدق اللحظة التي خرجت منها. وما يبقى في الذاكرة ليس ما وُضع في اليد، بل ما ترك في الروح من أثر ودفء. وحدها الهدايا الصادقة تعيش طويلاً، تتحول إلى ذكرى حانية تستعاد كلما ضاق القلب أو اشتاق.
كاتبة رأي



ما اجمل استعادة المعنى الإنساني والروحي للعطاء، حيث تتحول الهدية من مجرد شيء مادي ملموس إلى لغة من لغات الروح.
وهذا يعني أن القيمة ليست في الثمن، بل في النية التي تهب، والدفء الذي يتركه الفعل في القلب.
يفتح الحرف بابا للتأمل في جوهر الإنسانية: أن تُهدي لأنك تُحب، لا لأنك تنتظر، وأن تجعل من كل بادرة لطف أثرا يضيء الأرواح كما تضيء الهدية الصادقة عتمة الحياة.
شكرا جزيلا 🌹
ما أجمل حضورك يا مائسة، كلماتك امتداد للنية التي كُتب بها النص، دفء على دفء.
ابدعتي أستاذة ساره كلمات درر
مرورك بحد ذاته إبداع