كُتاب الرأي

كسر الدوائر

كسر الدوائر

محمد الفريدي

كل إنسان يعيش بين دوائر مختلفة: دائرة العائلة، دائرة العمل، دائرة العلاقات الخاصة والعامة، ودائرة الأصدقاء الذين نزعم أنهم “أقرب إلينا من أنفسنا”. نرسم هذه الدوائر بأيدينا، ونملأها بالوجوه والأسماء والذكريات، ونظن أننا بذلك صنعنا حصنا لا يُهدم. لكن الحقيقة المرة التي لا يريد كثيرون منا الاعتراف بها أن هذه الدوائر أوهى مما نتصور، وأسرع إلى الانكسار من زجاجة تُلقى على صخرة.

لطالما كانت الصداقة عندي قيمة عُظمى، غير أنني اكتشفت مؤخرا أنني كنت أقدّس العلاقة أكثر من ذاتي. منحتُ الصديق مساحة أوسع مما ينبغي، وجعلتُه مستودعا لأفكاري، وملاذا لهواجسي، وصدىً لصوتي الداخلي. وحين اصطدمتُ بالواقع، أدركت أنني كنت أبني على رمل؛ فلم يكن بيننا فهمٌ مشترك كما توهّمت، بل كان كلٌّ منّا يمضي في طريقه، وإن التقت خطواتنا زمناً طويلا.

الانسحاب لم يكن قرارا سهلا بالنسبة لي. حاولتُ ترقيع العلاقة أولا: أن أغيّر مرتبة الصداقة، أن أضع بعض الحواجز، أن أتعلم كيف أكبح رغبة الحديث والمشاركة. لكن كل هذه المحاولات كانت مجرد إسعافات أولية لجثة ميتة. الحقيقة التي ضربتني كصفعة على وجهي هي أن هذه العلاقة انتهت، وأن التمسك بها ليس سوى عبث، وأن الأجدى أن أقطع الدائرة كاملة، وأرميها خلف ظهري بلا رجعة.

كثيرون ينادون بثنائية الحزم واللين. يقولون لك: “كن حازما لكن لا تفقد إنسانيتك”، “كن لينا لكن لا تسمح أن يُستغل ضعفك”. كلام جميل يُعلّق على جدران التنمية البشرية ويُصفّق له في قاعات المحاضرات. لكن على أرض الواقع، الأمر ليس بهذه البساطة. أحيانا لا يكون أمامك إلا الحزم المطلق، لا مكان فيه لمرونة أو ميوعة. الانسحاب الحاد أفضل من التذبذب، والقطع الجذري أنقى من المساومة المستمرة.

مع من كان أقرب أصدقائي، وجدت نفسي أمام هذا الامتحان. كان علي أن أختار بين أن أعيش في دائرة مزيّفة مبنية على الذكريات والخيالات، أو أن أقطع الحبل بيدي، حتى لو نزفت من الجرح. اخترت القطع، واخترت أن أكون صريحا مع نفسي، حتى لو رأى الآخرون قسوتي.

حينما قررت التخلي، لم يكن هدفي أن أملأ الفراغ بصديق آخر، ولا أن أبحث عن بديل يرمم ما سقط. لا، لأن هذه العلاقة بالذات لم يكن لها مثيل، ولن يكون لها بديل. لذلك لم أرغب أن تُعاد، بأي شكل أو صورة. ما فقدته فقدته، وما دفنته دفنته. بل إنني رغبت بصدق أن أفقد الجزء من نفسي الذي كان يتنفس فقط عبر تلك الصداقة . رغبت أن أحرر نفسي من الاعتياد، من التعلق، من الانسياق وراء وهم.

ولأنني أتعامل مع نفسي بصرامة، لم أسمح لها أن تلعب دور الضحية أو أن تبكي على الأطلال. قلت لها بوضوح: “الخسارة هذه هي مكسبك الحقيقي. هذا الجرح سيقويك، وهذه الخيبة ستطهرك”. نعم، الصداقة التي كنت أظنها درعا تحولت إلى قيد، فلما كسرت القيد استعدت نفسي.

هواجس كثيرة داهمتني: هل أنا أناني؟ هل أنا خائن للصداقة؟ هل هدمت ما بنيته بيدي؟ أسئلة تدور في الذهن مثل سياط لا تتوقف. لكن الجواب عندي كان واضحا: أن أُتّهم بالأنانية أهون عندي من أن أكون كاذبا مع نفسي. أن أُخذل صديقا مرة واحدة أهون من أن أعيش سنين طويلة وأنا أُخادعه وأخادع نفسي.

لقد اخترت الانسحاب المبكر على الانفجار المتأخر، واخترت الخيبة الباردة على الضغينة الحارقة. صدقي مع نفسي كان من أولوياتي، ولن أساوم عليه من أجل شعور مزيف بالوفاء.

هذه “الأزمة” لم تجعلني أكره الصداقة كلها، ولم تهز علاقتي ببقية أصدقائي؛ بل على العكس، علمتني أن أقدّرهم أكثر، وأن أرى البركة فيما تبقى. بعض الصداقات، حتى تلك التي تتجدد حين أعود إليها، تحمل من الصدق والوضوح ما لم تحمله تلك العلاقة التي كنت أظنها الأعظم.

المشكلة لم تكن في “الزمان” أو “المكان”، ولا في الظروف، بل في النمط ذاته: في طريقة تفاعلنا، وفي الكيفية التي رسمنا بها الدائرة ثم حاصرنا أنفسنا داخلها. وحين انفجر هذا النمط، لم يبقَ أمامنا سوى كسر تلك الدائرة بأكملها.

كل علاقة هي مرآة. البعض يعكس نورك ويزيده، والبعض لا يرى فيك إلا الظلام. بعضهم يدفعك للأمام بكلمة، وبعضهم يسحبك إلى الخلف بصمته. وأنت، في النهاية، لست مسؤولا عن إنقاذ من لا يريد أن يُنقذ، ولا عن إصلاح من لا يعترف بأنه مكسور.

إذا لم يغيّر الإنسان ما بداخله، فمهما بذل من وقت وجهد وحب، لن تصنع فيه شيئا. وهذا الدرس القاسي هو ما علّمتني إياه هذه التجربة: أن ألتفت إلى نفسي أولا، وأن أطمئن مع ذاتي قبل أن أمدّ يدي لغيري.

حينما تكسر دائرة، فأنت لا تدمر العالم. أنت فقط تعيد ترتيب حياتك. الخسارة هنا ليست نهاية الطريق، بل بداية مسار أنقى وأصدق. نعم، ستفتقد أشياء كثيرة: تفاصيل، ذكريات، لحظات. لكنك ستكسب أثمن شيء: حريتك الداخلية.

لقد فهمت الآن أن الدوائر لا تكسر نفسها. أنت من يجب أن يملك الشجاعة ليمسك المطرقة ويحطمها. والقرار قد يبدو مؤلما، لكنه في الحقيقة هو أعظم قرارات التحرر. لأنك حين تكسر الدائرة، فأنت لا تتخلى عن صديق فقط، بل تتخلى عن وهمك، عن ضعفك، عن قيودك. وهذا وحده يكفي ليجعلك أقوى وأكثر صدقا مع نفسك والعالم.

فليست كل خسارة تستحق الندم، ولا كل انسحاب يُحسب هزيمة. أحيانا يكون الانسحاب إعلانا عن انتصارك على الوهم، وإشهار سيفك في وجه الضعف الذي ظل يسكنك. الصداقة التي لا تحتمل الصدق لا تستحق أن تُسمى صداقة أصلا. والدوائر التي تُبنى على المجاملات وإنصاف الحقائق لا بد أن تُكسر، وإلا تحولت إلى قفص.

أنا لا أبحث عن أعذار، ولا أوزّع شهادات حسن سيرة وسلوك على أحد. من خرج من حياتي خرج، ومن بقي فعليه أن يعرف أن البقاء عندي ليس امتيازا مجانيا، بل التزام بالصدق. لا أريد من يزيّن كذبه بكلمات الوفاء، ولا من يتقن التمثيل باسم الصداقة. هذا النوع من العلاقات انتهى إلى الأبد.

لقد دفعتُ ثمنا غاليا من راحتي وهدوئي لأنني كنت أفتح أبوابا لا تستحق أن تُفتح، وأمدّ يدي لمن لا يستحق المصافحة. واليوم، أغلقت تلك الأبواب برجلي، ولن أعود لفتحها مهما كان الثمن. الصدق مع النفس أهم من ألف صديق مزيف، والكرامة أثمن من أي دائرة فارغة يتوهم أصحابها أنها حياة.

ليعتبرني من يشاء قاسيا، أنانيا، متكبرا؛ فكل هذه الأوصاف أهون عندي من أن أعيش دور الضحية أو أن أتحول إلى ممثل رديء في مسرحية رخيصة اسمها “الوفاء”. أنا لا أبيع نفسي لأجل أحد، ولا أسمح لأحد أن يضع يده على مقود حياتي.

الآن، أكتب لكم القاعدة التي أؤمن بها بوضوح: لا مكان للمجاملات، لا مكان للأكاذيب، لا مكان للضعف. من أراد أن يدخل حياتي فليتحمل صراحتي وحدتي، ومن لم يحتمل فليذهب من حيث أتى. انتهى زمن الركض خلف أحد، وانتهى زمن التمسك بمن لا يستحق.

لذلك أقولها بوضوح: نعم، أنا قسوت، وانسحبت، وأغلقت الباب. نعم، اخترت أن أكون صادقا مع نفسي، حتى لو وُصفت بالأنانية. لأنني ببساطة لا أبيع نفسي من أجل شعارات الوفاء الفارغة. الوفاء بلا صدق نفاق متقن، وأنا أرفض أن أعيش في دور المنافق.

فليكن ما يكون. من أراد أن يبقى في حياتي فليتحمل صدقي وحدتي، ومن لم يحتمل فليذهب من حيث أتى. لن أركض خلف أحد، ولن أمدّ يدي للحفاظ على دائرة اخترت بنفسي كسرها. ومن أراد البقاء فليتحمل صراحتي، ومن لم يستطع فليبتعد بصمت.

إن الخسارة الحقيقية ليست في أن تفقد صديقا، بل في أن تفقد نفسك وأنت تتمسك بصديق لا يستحق التمسك به. وأنا اخترت أن أنقذ نفسي، وأكسر الدائرة، وأخرج من وهم الصداقة التي كانت مجرد بعوضة تطنّ في رأسي أكثر مما تعطيني. لن أضيع طاقتي على سراب يتقمص دور الصديق، ولن أسمح لأي وهم أن يسرق مني معنى حياتي وهدفي. هذه ليست مرارة، بل تحرر؛ وما يبدو لكم نهاية هو في الحقيقة بداية علاقتي الحقيقية بنفسي. وكل من يأتيني بعد ذلك مرحب به، لكن لا أحد سيقيد حريتي.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫8 تعليقات

  1. لقد وضعتم يدكم على جوهر المسألة أستاذنا ومعلمنا الكريم أبو سلطان؛ فالإنسان لا ينقذ في النهاية إلا نفسه. إن ما سميتموه كسر الدائرة هو في حقيقته لحظة تحرر داخلي، حيث تتحول الخسارة إلى مكسب صافٍ. لقد لامس طرحكم عمق ما نعانيه.. حين تغيب الصراحة عن العلاقات، فجعل من هذا المقال مرآة صادقة لتجارب يمر بها الكثير. جزيل الشكر والتقدير على هذا المقال الجميل و المؤثر.

  2. اخي العزيز ابا سلطان ابداع وتميز كعادتكم
    لقد نقلنا مقالكم الي ملحمه المشاعر في صراع متنوع في سرد مزدحم بالذكريات والتعاملات افسده خيبت الامل والظن لطرف العلاقه وتشويه صرح المحبه والاخاء حتي هوي
    استدعيت فيه كل التعاملات والمجاملات الذي يعجز الشعراء والحكماء تصويرها وتجسيدها وكلمه عزاء في قرار يجعل العقل والقلب يتصارعان لانها العلاقه والرحيل ؟! والتغلب علي اثار الذكريات والتعاملات نتيجه خيبه الامل كنت اظن وكنت اظن وخاب ظني. ومضي كلا الي غايته وهذا طبع بعض البشر الذين لم نحسن اختيار معرفتهم وصداقتهم في ظل التلون الذي يفسد العلاقه ويكشفها ترفق بنا ابا سلطان لقد نكات جراح الاخرين ممن عانوا من هذه العلاقات السلبيه واتخذت القرار الحكيم انه الرحيل ونعمه النسيان

    1. أستاذي الكبير أبو وعد ، كلماتك النبيلة وقراءتك العميقة لمقالي أسعدتني كثيرا، وتعليقاتك الثاقبة ونظرتك الواسعة لأبعاد العلاقة الإنسانية ومنعرجاتها تعكس مدى رصيدك الوجداني والفكري الغني، وأجد نفسي شاكرا جزيل الشكر لمشاركتك هذه الرؤية الصادقة والمؤثرة.

      إشادتك بقدرتي على نقل المشاعر وصراعها، وتفهمك لأثر خيبة الأمل والتلون في العلاقات، تجعلني أشعر بأن جهدي لم يذهب سدى، وأن كلماتي قد لامست القلوب كما كنت أرجو. كلماتك عن القرار الحكيم بالرحيل والنسيان تضع الأمور في نصابها الصحيح، وتذكرنا جميعا بأهمية الحفاظ على الذات واحترام قيم الصدق والمحبة، حتى في مواجهة خيبات الأمل.

      أشكرك جزيل الشكر، أستاذي، على دعمك ووقوفك الأخوي، وسأظل دائما مستفيدا من نصحك وملاحظاتك الراقية التي تزيدني حرصا على تطوير تجربتي الأدبية والإنسانية معا.
      دمت أخا ومعلما ومُلهما.
      تلميذك المحب: أبو سلطان

      1. اخي العزيز ابو سلطان
        اشكركم علي ردكم الغير مستغرب منك ومن امثالك الاوفياء وهذا ديدن العظماء وانت ابا سلطان منهم ونشكر لكم هذا الاطراء الذي ينم عن اخلاقكم ووفاكم وتواضعكم
        انت استاذنا الذي نعجز عن مواكبته الذي ينير دروب حياتنا ويثري المعرفه ويحلق قلمكم في كل ميادين المعرفه والوطن دمت ذخرا وفخرا لهذا الوطن وابناؤه بل يتجاوز الحدود مغردا في سما الاصلاح والقيم ودروب النجاح والازدهار

  3. مع تحياتي للكاتب القدير
    أخي العزيز ابوسلطان
    ابدعت في المقال رغم مانعرف عنك من طيب ذات وما حباك الله مم الاخلاق وحسن السيرة والسريرة
    مقامك مدرسة في خلق العلاقات على الاسس المتينه مع كل صادق معه ،اما المتلون فيصعب استمرار التعامل مع مهما طال الزمن…
    وبكل الأحوال قدوتنا في الحياة والعمل والتعامل مع الاخر ..
    هو الرحمة المهداة للبشرية جمعاء وسولنا الكريم محمدبن عبدالله صلى الله عليه واله وصحبه وسلم..
    من خلال عمله وتعامله مع
    كل الدوائر الاسرة والاقارب والاصحاب والمجتمع و الأمة
    ومع من آمن به ومن كفر بدعوته والبشرية جمعاء ..
    فهو خير قدوة وسيرته خير ما يتبع
    في كل الأحوال والحالات ولن يندم من اقتدى به واتبع اثره وبالله التوفيق ..
    اخوكم / حزام بن سعيد ال فاهدهـ

    1. أخي الكبير سعادة اللواء حزام آل فاهده، أشكرك من القلب على تعليقك الذي أضاء المعنى وزاد المقال عمقا وثراء. شهادتك وسام أعتز به، ومكانتك عندي كبيرة. بالفعل، ما أجمل أن نعود دائما إلى السيرة النبوية العطرة، فهي المنهج الذي لا يضل من اقتدى به، والقدوة التي تنير لنا الطريق في علاقاتنا وحياتنا كلها. جزاك الله خيرا على كلماتك، ودمت قدوة وأخا كبيرا نفخر به.
      أبو سلطان

  4. مقالك رائع وعميق، شكراً لك على هذه الصراحة والوضوح في التعبير عن تجربة صعبة لكنها مليئة بالدروس. لقد استطعت أن تبرز قيمة الصدق مع النفس وأهمية التحرر من العلاقات التي تهدر طاقتنا، بأسلوب مؤثر وجريء

    1. شكرا لك أستاذ تركي على كلماتك التي أسعدتني كثيرا، الفكرة الحقيقية يا سيدي أن نكتب بصدق، لعل الكلمة تفتح نافذة للتأمل والتغيير. رأيك محل تقدير كبير، ويمنحني دافعا للاستمرار في طرق مثل هذه المواضيع.
      أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى