المثقفون والإسفنج

المثقفون والإسفنج
محمد الفريدي
في الكلية، وفي كل زاوية، وعلى كل منصة، وفي كل نقاش، هناك من يرفع صوته بلا هدف، ويكرر مصطلحات لا يفهم معناها، معتقدا أنها تعكس ثقافته العالية. كنت أراقب هؤلاء الذين أشبّههم بالإسفنج؛ يمتصّ كل شيء ويعيده بلا وعي، وبلا تفكير، وبلا وزن، وبلا أثر.
وكان هناك أيضا من يجلس في صمت، يراقب ويتأمل، ويختار كلماته بعناية. وحين يتكلم، تنحني الكلمات أمامه، لا لأنه يريد التصفيق، بل لأن كل كلمة منه تحمل عمقًا، وكل فكرة يطرحها تنبع من صميم معرفته وخبرته. ذلك هو المثقف الحقيقي، الذي يدرك أن الصمت أحيانا أقوى من ألف خطاب، وأن الصوت العالي بلا مضمون لا يترك سوى صدى فارغ. أثره باقٍ، لأنه لا يحتاج إلى صخب ليُسمع، ولا إلى ضوضاء ليترك بصمته؛ فوجوده قوة لا تراها العيون، لكنها تُحَسّ في العقول والقلوب.
هذا هو الفرق بين من يملأ المكان بالضجيج والضوضاء، وبين من يترك أثرا يبقى راسخا في الفكر والعاطفة؛ بين المثقف الإسفنجي والمثقف الذي يعرف قيمة الجوهر الحقيقي، ويصنع المعنى من كلماته، ويمنح الحياة لفكره، فيترك بصمة خالدة لا يمحوها صخب السطحيين.
هناك كائن يتجوّل بيننا يصف نفسه بـ”المثقف”، بينما هو في الحقيقة لا يختلف عن إسفنجة رخيصة تمتص كل ما يقع أمامها، ثم تفرغه في أي مكان بلا وعي ولا تمحيص. يشبه جهاز راديو قديم يلتقط كل موجة وكل ضجيج، ثم يعيد بثّها بلهجة واثقة، وكأنه يملك مفاتيح المعرفة من أولها إلى آخرها.
اليوم يتحدث في السياسة، وغدا يخوض في الذكاء الاصطناعي، وبعد ساعات يقفز إلى تفسير الأحلام، ثم لا يجد حرجا في إلقاء محاضرات عن التغذية واللياقة البدنية. لا مشكلة عنده في ارتداء أي قناع: ناقد، فيلسوف، اقتصادي، محلل نفسي، خبير رياضي، أو حتى شيخ يفتي في الحلال والحرام. المهم ألا يُطفأ عنه الضوء، وألا ينسحب البساط من تحت قدميه.
المشكلة ليست في جهله، بل في ثقته الزائدة بنفسه. يقرأ تغريدة فيظن نفسه مكتشفًا لأسرار التاريخ، يشاهد مقطع فيديو قصير فيعتبر نفسه صاحب نظرية جديدة في علم الاجتماع، يستمع لمحاضرة سطحية فيحمل لقب “المفكر العظيم”. لا يعرف معنى كلمة “حدود”، لأنه ببساطة يعتقد أن حدود المعرفة تنتهي عند لسانه. والمصيبة الكبرى أن هذا الوهم يعميه عن الحقيقة، ويجعل من نفسه مرجعا مزيفا، بينما العالم الحقيقي من حوله مليء بمن يفكر، ويتأمل، ويزن كل فكرة قبل أن ينطق بها.
هذا النوع من المثقفين يعشق المنابر كما يعشق مدمن المخدرات جرعته اليومية. المقهى الشعبي، مجموعة “الواتساب”، جلسة الأصدقاء، أو منصة النقاش؛ كلها بالنسبة له خشبات مسرح يمثل عليها الأدوار التي يريد. وما أن يبدأ النقاش حتى يخرج من جيبه قاموسا من المصطلحات الأجنبية، نصفها لا يعرف معناها، لكنه يلفظها بلكنته المتعجرفة ليخدع بها السذج.
والمفارقة أن من يجلس حوله ينقسم بين مصدق يصفق، وساخر يضحك، وكلاهما يمنحه ما يريد: أن يبقى في المركز، حتى لو كان مركزا وهميا، وأسير متعة التمثيل التي هي كل ما يعرفه عن العالم.
تمدد هذا الكائن يشبه انتفاخ بالون بلا هواء حقيقي. شكلٌ كبير، صوتٌ عال، لكن مجرد وخزة إبرة تكشف خواءه. لا عمق، ولا جذور، ولا مرجعية.
يوزّع آراءه كما يوزّع أحدهم النكات الرخيصة في جلسة مملة؛ كثير منها لا يثير الضحك، وبعضها تثير الشفقة، وجميعها بلا قيمة.
كل كلمة منه تصدر كصدى فارغ، وكل فكرة كفقاعة هواء تتلاشى بمجرد لمسها. لا يحمل وزنا، ولا يترك أثرا. وجوده أشبه بظل يترنح في الضوء. يملأ المكان بالمظاهر فقط، ويترك وراءه فراغا صاخبا لا معنى له.
كل محاولة لمناقشته تبدو كمن يحاول الإمساك بالهواء، وكل من حوله يكتشف سريعا أن كل هذا الضجيج لم يكن سوى ضحكه على نفسه قبل أن يكون على الآخرين.
في المقابل، يدرك المثقف الحقيقي أن المعرفة ليست سباقا لاحتلال كل مساحة، بل مسؤولية تحتاج إلى تركيز وتواضع وصبر. يعرف أن العمق أهم من الانتشار، وأن الكلام بلا أساس لا يساوي أكثر من ضوضاء زائلة. أما المثقف الإسفنجي، فيريد أن يكون في كل مكان، ولا يترك إلا أثرا سطحيا، كبركة ماء ضحلة تعكس صورته للحظة، ثم تختفي مع أول وهج من الإدراك الصحيح.
الدرس الذي يقدمه المثقف الإسفنجي، رغم تفاهته، عميق: لا تحاول أن تكون نسخة من كل شيء، لأنك ستنتهي بلا شيء. فالمعرفة ليست عرضا مسرحيا، ولا مائدة مفتوحة تلتهم منها بلا توقف، بل رحلة تحتاج إلى صمت وتأمل وتجربة. رحلة تحتاج إلى أن تتذوق وتستوعب، لا أن تلوك الكلمات أمام الآخرين لمجرد الظهور، فالكلمة التي لا تخرج من عمق التجربة تبقى مجرد صدى فارغ يتبخر مع أول مواجهة حقيقية.
كل ما يملكه هذا المثقف الإسفنجي هو حضور فارغ، مثل بالون يطفو في الهواء؛ يلفت الأنظار للحظة، ثم ينفجر أو يذبل بلا أثر. أما المثقف الحقيقي، فهو الأساس المتين الذي لا تراه يصرخ في كل اتجاه، بل يبقى ثابتا، مؤثرا وضروريا، لأنه يعرف أن قيمته في جوهره لا في صخبه، وفي عطائه لا في ادعاء العطاء.
وإذا كان هناك ما يميّز هذا الإسفنجي حقا، فهو هوسه المَرَضي بالظهور. فكل نقاش عنده معركة لا بد أن تنتهي بهزيمة أو انتصار، وكل سؤال يتحوّل إلى منصة لإثبات أنه “يعرف كل شيء”. لا يعنيه أن يكون صوته فارغا؛ المهم أن يبقى مسموعا وحاضرا. وإن صمت لحظة واحدة، شعر وكأن الأرض تهتز من تحته، والعالم بأسره على وشك أن يطويه في غياهب النسيان.
وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث المنابر مفتوحة لكل من يتوهّم أنه عالِم، أصبح هذا الكائن الهلامي أكثر خطورة على المجتمع. يعرف كيف يلعب على المشاعر، وكيف يوظّف المصطلحات الأجنبية ليبدو متقدما وراقيا، كما يحوّل الحقائق البسيطة إلى شروحات ومفاهيم معقّدة تخدع من حوله، ولا يترك وراءه سوى فوضى فكرية و ضبابا يطمس العقول، ليبقى الجهل متنكرا في ثوب الثقافة.
لكن حقيقته تبقى واحدة: قشرة رقيقة تنكسر عند أول تحدّ، ويختنق إذا حوصر بالأسئلة الجادّة، وكل ضحكه المتكبّر، وكل حديثه المتصنّع، ما هو إلا ستار يغطي به فراغه الداخلي، الذي لا يحتمل الحقيقة ولا مواجهة الفكر المستقل.
صوت مرتفع بلا جوهر، وصورة براقة بلا مضمون، ويتغذّى على التصفيق. وجوده ليس إضافة، بل عبء على من يجالسه، لأنه يملأ الفضاء بضجيج يطمس الأصوات الأخرى الحكيمة. وكلما ازداد حضوره، ازداد غياب الوعي، حتى يصبح المجتمع أسير شخصيات كرتونية لا تملك سوى تسويق وهم المعرفة. ويظل فراغه مكشوفا للجميع، وتُفضحه الحقيقة في كل لحظة، ليظهر مدى هشاشة صورته أمام الواقع، وانعدام قيمته.
الأمر المضحك المبكي أن هذا المثقف الإسفنجي يلتهم المعرفة كما يلتهم وجبات الطعام السريعة: بكميات هائلة، وبسرعة جنونية، وبدون تذوّق. يقرأ عنوانًا فيظن نفسه خبيرا في الاقتصاد، يشاهد فيديو فيتقمص خبراء الصحة والحياة البرية، ويستمع لمحاضرة قصيرة عن الذكاء الاصطناعي فيكتب مقالات يظنها علمية. كل شيء عنده لعبة، وكل منصة ثقافية مسرح، وكل كلمة مجرد وسيلة للاستعراض، أما الفهم فدعك منه؛ فهو غائب عن قاموسه منذ البداية.
في أي مكان، يصبح مركز الانتباه، لا لعمق أفكاره أو صحة آرائه، بل لصوته العالي، وولعه بتكرار المصطلحات، وحماسه المصطنع لإظهار “ثقافته”. قد تضحك من جهله، أو تشفق من سلوكه، أو تغضب من وقاحته، لكنك لا تستطيع تجاهله، لأنه مصرّ على أن يكون حاضرا في كل زاوية، يملأ الفراغ بالتفاهات، ولا يترك أثرا سوى إرهاق العقول السليمة .
وهنا يكمن جوهر الخطر الحقيقي: كلما سعى لأن يكون حاضرا في كل مكان وسكتنا، كلما تحوّل أثره إلى ضوضاء تغطي على الحقيقة. أما المثقف الصادق، فلا يحتاج إلى الصراخ ولا إلى الركض خلف الأضواء، لأنه يدرك أن الصمت أحيانا أبلغ من ألف خطاب.
في عالم يغرق في الضوضاء والمظاهر، يظل المثقف الصادق نورا لا يُطفأ، ولا يسعى وراء الأضواء ولا يلهث خلف الشهرة. تأثيره حقيقي، لأنه ينبع من عمق الفكرة وفهم مضمونها العميق، بينما من يلهث وراء كل قضية يصبح مجرد صدى فارغ، وصوت بلا مضمون، وثرثرة بلا قيمة. ليكن صمتنا قويا وحضورنا مؤثرا، فالقيم الثمينة لا تحتاج إلى صخب لتُسمع، بل إلى من يعرف قيمتها ويفهمها. ومن يفهم هذا، يصبح حضوره قويا لا يُستهان به، وصوته نورا يضيء الطريق وسط الظلام والضوضاء.
إن درس المثقف الإسفنجي لا ينتهي عند حدود الفرد، بل يمتد ليصبح تحذيرا لكل أفراد المجتمع الذين يفضلون السخافات على العمق الفكري، ويفضلون الصخب على الحكمة. فحين يسود هذا النوع من الثقافة، تتحول نقاشاتنا إلى ساحات للصخب، وتصاب أفكارنا بالهشاشة الفكرية، ويضيع الحوار الجاد بين الصخب الفارغ والعبارات المستهلكة. والمجتمعات التي تعطي مساحة كبيرة لهذه النوعيات من البشر، تجدها أسيرة لشخصيات مرتفعة الأصوات، بلا وزن حقيقي، بلا تأثير يُذكر، وكل شيء حولها يتحرك وفق هوى الغير.
المثقف الحقيقي، على العكس، يبني حضوره على صبره وتجربته، وعلى صمته في الوقت المناسب، وعلى قدرته على التمييز بين المهم وغير المهم. هو من يعرف أن الكلمة الواحدة المفهومة بعمق أفضل من ألف كلمة بلا معنى، وأن كل فكرة يجب أن تخضع للفحص قبل الطرح، وأن المسؤولية الحقيقية للمعرفة تكمن في أثرها لا في صخبها. ويترك أثره في كل مكان بدون صخب، ووجوده في المجتمع ثابت بلا ابتذال، وصدقه يفرض احترامه بلا استعراض، وحضوره ثابت كجذور شجرة عملاقة لا تزعزعها الرياح العاتية. فالمثقف الحقيقي لا يُقاس بعدد الكلمات التي ينطق بها، بل بمدى عمق أثره في العقول والقلوب.
ولهذا، ينبغي على مجتمعنا أن يفرّق بين الضوضاء والمعاني العميقة، وبين من يسعى للظهور ومن يحمل الحقيقة، وبين من يملأ الفضاء بالصخب ومن يترك أثرا في العقول والفكر والعاطفة. فنحن لا نحتاج إلى أصوات مرتفعة فحسب، بل إلى عقول مضيئة، وصمتٍ يصقل التفكير ويهذّب الفهم، وحضارة تبني نفسها على المعرفة الصادقة لا على الانطباعات المزيّفة.
فهل نختار أن نكون جزءا من الضوضاء الفارغة، أم نلتزم بالعمق، ونمنح المعرفة والثقافة حقها، ونترك أثرا يخلّدنا بعد رحيلنا؟ إن جوهرنا الحقيقي وحده ما يخلده الزمن، ويضيء الطريق لأولئك الذين يبحثون عن النور وسط الظلام. القرار قرارنا، والمسؤولية التي تقع على عاتقنا أن نترك للعالم أثرا يتجاوز الصخب ويصمد أمام عوامل الزمن.
مقال ثري بالمفاهيم والطرح العميق، يوضح بجلاء الفرق بين ضجيج السطحية وصوت الجوهر الحقيقي.
شكرًا للكاتب على هذا الإبداع. ✨
أخي محمد :
ومن منا يرضى أن يكون مثقفاً اسفنجياً ؟!
تنوع المهارات مطلب والمهارات لا تكتسب الا بالعلم والتعلم أما الخوض في كل مجال دون علم ودراية فهو تخبط يشبه الى حد كبير تخبط العشواء .
نسأل الله أن لا نتحدث الا فيما نحسن التحدث فيه .
شكراً لك ابو سلطان فقد ابحرت كثيراً في التفريق بين الثقافة الراسخة والثقافة الاسفنجية وأبدعت بلا شك .
بارك الله فيك سعادة أخي الكاتب الموفق في الطرح والمعالجة،
كثر الله أمثالك وبدون مجاملة،
امتعتنا وقرائك بما مد به قلمك،
وفكرك الراقي ،سلمت يداك ونفع الله كل قاريء بأدبك وذائقتك …
تحياتي وللمزيد من التألق ..تحياتي
اخوكم / حزام بن سعيد ال فاهدهـ