كُتاب الرأي

بين الحرية والفوضى أدق من الشعرة

محمد الفريدي

بين الحرية والفوضى أدق من الشعرة

الحرية مفهوم سامٍ ولا تعني الفوضى أو تجاهل حقوق الآخرين، وتُبنى على أساس من المسؤولية والاحترام المتبادل، ومعرفة حدود حريتنا يضمن استمرارها، وتحدد لنا متى تبدأ ومتى تنتهي بدون المساس بحقوق وحرية الآخرين.

فنحن نعيش في زمن تسود فيه شعارات الحرية بلا ضوابط، ويعتقد البعض أن الحرية تعني الحق المطلق لفعل ما يشاء متى يشاء دون مراعاة لحدود حرية الآخرين أو مصالحهم، والحقيقة أن مفهوم الحرية يقوم على أساس قوي من المسؤولية والاحترام المتبادل، فلا يمكن لأي مجتمع أن يستمر في حالة من الفوضى الناجمة عن حرية بلا حدود ولا ضوابط.

فمعرفة الحدود في الحريات أمر ضروري، وبعض الأشخاص يعتقدون أن مفهوم “الحدود” تعني القيود ونقيضا للحرية، ولكن في الواقع الحدود هي ضمان لاستمرار الحريات وتمنحها قيمة حقيقية، فمن خلال فهمنا لحدودنا نحدد من أين تبدأ حقوقنا، و من أين تنتهي، و تمنعنا من التعدي على حقوق الآخرين.

لذا، فإن معرفة الحدود تعني القدرة على التمييز بين التصرفات الشخصية واحترام حقوق الآخرين وهي التي تحافظ على انسجام حياتنا وتوازنها، ومن خلال فهمنا لهذه الحدود، نستطيع أن نعيش في مجتمع يسوده التعاون والاحترام المتبادل بعيدا عن الفوضى والتجاوزات التي تهدد استقرارنا وأمننا وحياتنا وحياة الجميع.

إن إدراك هذه الفكرة يجعلنا أكثر وعيا بمسؤولياتنا كأفراد ويسهم في بناء بيئة أكثر إيجابية وصحية للجميع، وعندما نعي حدود حريتنا وندرك أن لها تأثيرات على من حولنا نتعلم كيف نتفاعل مع الآخرين بطرق تحترم حقوقهم وتحفظ كرامتهم.

وهذا الوعي يسهم في تعزيز روح التعاون والتعاطف ويخلق مجتمعا يسوده السلام والتناغم، فإذا أدرك كل فرد أهمية احترام حدوده سنقلل من حالات الفوضى والاعتداء على حقوق الآخرين، وسنتمكن من العيش في بيئة تتسم بالاحترام المتبادل مع جميع مكونات المجتمعات في أي مكان.

فالأمر لا يتعلق بحماية حقوق الأفراد في مجتمعنا فقط، بل أيضا بالعمل نحو تعزيز حقوق الجميع، مما يسهم في تحقيق توازن يعكس التعايش السلمي، ولهذا، تسعى الدول لبناء ثقافة تعزز قيم المسؤولية والاحترام لأن هذا هو الطريق الصحيح نحو بناء مجتمع أفضل وأكثر أمنا واستقرارا.

مشكلتنا نحن تكمن في اختلاط مفهوم “الحرية” مع الفوضى، حيث بات الكثيرون يستخدمون “حرية التعبير” كمبرر لإلقاء آراء هجومية على الآخرين معتبرين أن التعبير عن الرأي حق مطلق، حتى لو أساء للآخرين، وأصبح من الشائع أن نرى شخصا يدلي بتعليق جارح على وسائل التواصل الاجتماعي مستغلا شعارات الحرية كدرع يحميه من أي ردة فعل كما يظن.

وعندما يُساءل عن سلوكه، يتساءل ببرود: “لماذا يُزعجك هذا الأمر؟ وما علاقتك أنت بهذا التصرف؟ إنها حرية شخصية! ”، وكأن عدم احترام البيئة والمجتمع والجيران من حولنا يُعتبر من حقوق الإنسان، فهل هذه حقا حرية أم أنها استهتار يضر بالمجتمع والآخرين؟
إن تصرفات من هذا النوع لا تعبر عن الحرية بل تجسد معاني الاستهتار بالقيم الاجتماعية والمسؤولية الفردية، والخلط بين الحرية والفوضى يخلق فوضىً اجتماعية تؤثر على الجميع، فحرية التعبير لا تعني الإساءة إلى الآخرين أو التخريب بل تتطلب مسؤولية أخلاقية تجاه الغير، وأن نفهم أن حرية الفرد يجب أن تُمارس دون التعدي على حرية الاخرين ، وأن تكون هناك حدود واضحة تكفل حقوق الجميع، فالحياة في مجتمع يسوده الاحترام المتبادل هي ما يجعل الحرية أمرا يستحق العيش من أجله، فلذلك ، ينبغي لنا جميعا أن نتحمل مسؤولياتنا ونعمل على بناء بيئة تحترم حقوق الأفراد وتوازن بين حريات الجميع.

نعيش في زمنٍ يشهد مظاهر فوضوية متعددة تتخذ من “الحرية” ستارا، وفي هذا العصر نجد من تتعري على قنوات وسائل التواصل بحجة الحرية، ومن يتدخل في حياتك بآرائه المزعجة بدون دعوة منك، وكأنه ملزم بأن يفكر بالنيابة عنك، أو يحاول إملاء تصرفاته عليك كما لو كنت طفلا صغيرا وهو ولي أمرك، هؤلاء الأشخاص يُظهرون غالبا عدم احترامهم لخصوصيتك معتبرين أن لديهم الحق في توجيهك وإصلاح سلوكياتك بناءً على فهمهم الشخصي للحياة، وهذا التصرف يتنافى مع مفهوم الحرية الحقيقية التي يجب أن تُمارس في إطار من الاحترام المتبادل والوعي بحدود كل طرف.

والأمر لا يتوقف عند هذا الحد فهناك من يستغل شعارات الحرية لتبرير حروب مدمرة تُزهق فيها أرواح الأبرياء تحت ذريعة “نشر الحرية” أو “التحرر”، مما يجعلنا نتساءل: أهذه حرية أم تبرير للاعتداء؟
وبينما يُروّج البعض لفكرة الحرية يندفع آخرون نحو العنف، ويستخدمونها كغطاء لتبرير جرائمهم، فيتشوه مفهوم الحرية ويُستغل لتحقيق أهداف شخصية أو سياسية.
إن هذا الاستخدام المشوّه لمفهوم الحرية يعكس مدى خطورة الفوضى التي يمكن أن تنتج عن عدم الوعي بمسؤولياتنا تجاه الآخرين، ويؤكد على ضرورة وجود ضوابط تحافظ على القيم الإنسانية والحقوق الأساسية.

وهنا نجد أنفسنا أمام مأزق حقيقي؛ كيف يمكننا التفريق بين الحرية الحقيقية التي تُعزز السلام والاحترام وتلك الفوضوية التي تُستخدم كوسيلة للاعتداء على حقوق الآخرين؟
الإجابة تتطلب وعيا جماعيا وإدراكا لمفهوم المسؤولية المرتبطة بالحرية فليس كل ما يُسمى حرية هو في الواقع تعبيرٌ صادق ودقيق عنها، لذلك ، نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في مفاهيمنا وتحديد حدود حرياتنا بشكل يُحافظ على حقوق الجميع ويسهم في بناء مجتمع متماسك وآمن، ويتطلب هذا العمل على تعزيز قيم الاحترام المتبادل، ووجود آليات اجتماعية وقانونية تُحافظ على التوازن بين حقوق الأفراد وواجباتهم تجاه المجتمع مما يساعدنا على خلق بيئة نشعر فيها بالأمان والاحترام.

ولكن هناك من لا يزال يرى أن الأفكار ملكٌ مشاع للجميع فيلجأ إلى سرقة أفكار الآخرين، ويقدمها كإنجازات شخصية له دون أن يعير انتباها للجهد الذي بُذل من قِبل المبدع الأصلي، وكأن الأمر ببساطة “حرية اقتباس”، بينما هي في الواقع، سرقة للأفكار تدمر الإبداع وتهين العمل الجاد الذي بذله الآخرون، ولذلك ، من الضروري جدا تعزيز قيم الأمانة والاحترام في التعامل مع الأفكار، والتأكيد على أهمية الاعتراف بالجهود الفردية كعنصر أساسي لبناء مجتمع صحي ومبدع يحترم الحريات ويعزز التقدم ويصنع الإبداع والمعجزات.

يجب علينا أن نكون واعين لأهمية احترام حقوق الآخرين في أفكارهم وإبداعاتهم، وأن نتذكر أن كل فكرة تحمل خلفها تاريخا وجهدا وتعبا، وأن الإبداع الحقيقي يستحق التقدير، لا السرقة، فالإبداع هو ثمرة تجارب وتفكير عميق، ولا ينبغي أن نسمح لمتجاوزي الحريات أن يعصفوا به وبقيمنا ومبادئنا الأخلاقية، فتعزيز ثقافة الاعتراف والإشادة بالمجهودات الفردية تسهم في بناء مجتمع يقدّر الإبداع ويعزّز روح التعاون والاحترام بين أفراد المجتمع، وأن ندرك أن حماية الإبداع ليست مجرد حق فردي بل هي مسؤولية جماعية تضمن لنا مستقبلا مليئا بالأفكار الخلاقة، ومجتمعا لا يزدهر فيه سوى من يحترم قيم العطاء والابتكار.

وأخيرا وباختصار شديد، الحرية الحقيقية تعني الالتزام بمسؤولية تجاه الذات والآخرين، وتحقيق التوازن بين الرغبات الشخصية ومصلحة الدولة والمجتمع، وليست حقا مطلقا يُمارس بشكل منفرد بل هي عملية ديناميكية تتفاعل فيها حقوق الأفراد مع حقوق الدولة والمجتمع ضمن إطار من الاحترام المتبادل والانضباط السليم لمجتمعنا الغير منضبط.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫4 تعليقات

  1. ماشاء الله
    مقال في منتهى الواقعية
    جدير بأن يُقرأ في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل
    تحية لقلمك المتميز وفكرك الراقي

  2. ماشاء الله جمييييل المحتوي أستاذ محمد الفريدي، الكاتب المتنوع في الطرح.
    توجيه مغلف بعبارات راقية، ينساب معها الفكر و تأتي مراجعة النفس؛ ضمن الإنسياب.

    (أدق من الشعرة) . توصيف في مجله لان الفرد يجد نفسه على الحافة ” يكون منضبط،، أو لا يكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى