محمد القشعمي وخلاصات التجربة والمسيرة
جدة – مشعل الحارثي
محمد عبد الرزاق القشعمي هذا الرجل الطاعن في الحب بجسمه الطويل النحيل ورأسه الاشيب وعيناه اللتين تتسعان لكل الدنيا، ويداه المغبرتين دائماً بغبار الكتب والمجلات والأوراق والملفات
والاقلام هو شخصية لها في عيوننا وقار الشيخ الكبير المكتنز بالخبرات والتجارب وعطاء السنين، وله في ساحاتنا الثقافية وقع الخير ودفء الانتماء، وهو في فكرنا نموذج مشرق للمثقف الواعي والباحث المجد المثابر الذي احتملالأمانة ورسم خارطة الوطن في قلبه وعلى جبينه فيما نذر له نفسه من عمل منتج دؤوب.
وهو أيضاً يمثل نموذج نادر ومختلف لخلطة إنسانية من الحب والمودة والاحترام والتواضع والنزاهة والجدية، وقد عرفناه رجل مفعم بالسجية لطيف المعشر ذو أسلوب سهل وسلس في تعبيره، وصاحب همة عالية جعل له من القلم ساحة عرس كبير، ومن الحبر نهراً صافياً، ومن الورق فضاءا لا حدود له لإعادة رسم الحياة وتوثيق جوانب من تاريخ البلاد وسير الرجال المبدعين والمخلصين الأوفياء،وفوق ذلك فيده دوماً ممدودة لمصافحة الأخرين والتعاون معهم ومدهم بما يحتاجونه من توجيه وارشاد حسن.
وعندما اكتب ويكتب معي الآخرون في هذا الإصدار الخاص عن الكاتب والباحث والأديب والمؤرخ الأستاذ محمد القشعمي (أبو يعرب) ، فإننا لا نكتب تعريفاً بالرجل فهو أكبر من أن يعرف و صاحب عمر يمتد عقوداً من الزمان ، وعرفه الناس في الحياة العامة كموظف حكومي في رعاية الشباب في بداية تكوينها وفي فروعها بعدة مناطق بالمملكة ، وكذلك في المؤتمرات والندوات والمناسبات والصالونات الثقافية ومن لم يعرفه في كل ما سبق، فقد عرفه كاتباً ومؤرخاً، له عشرات المؤلفات والأبحاث والدراسات، او من خلال مقالاته التي زينت صفحات كبريات الصحف والمجلات السعودية والعربية على مدى عقود طويلة من السنوات ، كما قدم جوانب من سيرته الشخصية بقلمه في الكتاب الذي عنونه باسم ( عشر سنوات مع القلم ) الصادر عام 1432هـ، وفيه ألقى المزيد من الضوء على حياته الشخصية والعلمية والتاريخية، وضم إلى جانب تقديم وكيل وزارة الإعلام للشئون الثقافية الأسبق الدكتور ناصر الحجيلان أيضاً عرض لمرحلة الطفولة ومحطات عمله الحكومي ، وعلاقته بالكتاب وبداياته مع الكتابة والتأليف ، وتوليه الإشراف على سلسلة كتاب هذه بلادنا التي تمثل موسوعة استطلاعية لمدن ومحافظات المملكة المختلفة وصدر منها (50) كتاباً ، وما كتب عنه أيضاً في الصحف الالكترونية ، وما القاه من محاضرات وشارك به من أبحاث في بعض الندوات وفي عدة مناسبات ، هذا إلى جانب رصد ببليوغرافي لما نشر له من بحوث ومقالات طوال تلك العشر سنوات في الصحف والدوريات ، وإن كنا اليوم وفي هذه المناسبة نطالبه بطباعة الجزء الثاني او إعادة اصدار هذا الكتاب ليكون رحلتي مع القلم بعد (25) عاماً لأننا لانشك أن انتاجه خلال هذه الفترة الجديدة قد تضاعف عما جاء في إصداره الأول ، وفضلاً على معرفة الناس والأوساط الأدبية والثقافية به فقد تناولت سيرته أيضاً العشرات من الصحف والمجلات والقنوات الفضائية والمواقع والصحف الالكترونية الحديثة وحفلات التكريم العديدة التي أقيمت له في داخل البلاد وخارجها.
ولعل أروع توصيف لهذه السيرة هو ما تضمنته من مصداقية وعفوية وصراحة كاتبها، فقد كتبها بما عُرِف به من تلقائية وبساطة ولم يحاول أن يعطي نفسه أكبر من حجمها ولم يخفِ مواقف حصلت له، ربَّما كان البعض يخجل من ذكرها.
والحق فإن التوقف عند ما قدمته مسيرته وسيرته الشخصية والحوار حولها، كما في الحديث المباشر معه وما قدم عنه من معلومات قد لا تضيف شيئاً كثيراً وجديداً على شخصيته سواء للذين عرفوه مباشرة، أو من عرفوه من خلال نتاجه وكتاباته الكثيرة الغنية والمتنوعة، الا أننا عندما نتفحص وبتمعن سيرته ومسيرة عطائه الكبير وجهاده الطويل سنجد أنه يقدم لنا خلاصات ومحاور مفصلية للحياة العريضة التي عاشها ويتابعها وهو يقف الان على اعتاب عقده التاسع، المديد بإذن الله ، وهي خلاصات نحتاجها نحن والمجتمع ويحتاجها أبناء الجيل الجديد من الشباب ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1- العصامية: ونقصد بالعصامية هنا وكما نعرفها القدرة على صنع الذات والاعتماد على النفس وتخطي كل الصعوبات والعوائق والمثبطات وسقطات الفشل والتي تدفع الإنسان وتحفزه دائماً للإصرار على الجد والمثابرة حتى يصل إلى هدفه ومبتغاه.
وبرغم كل ظروف القسوة والمعاناة التي أحاطت بمراحل طفولة وشباب محمد القشعمي، إلا أن العصامية طبعت عليه وشاحها بقية مراحل حياته فجعلته رجلا لا يقف عند النهايات مثل الكثيرين بل يعتبر نفسه في بدايات متواصلة طالباً للعلم باحثاً عن المعرفة التي لا تقف لديه عند حدود وتتأقلم باستمرار مع طبيعة ومتطلبات الحياة ومراحلها المتغيرة.
2- ومن الخلاصات التي قدمها لنا محمد القشعمي خلاصة لا تقل أهمية عن سابقتها، وتتصل برابطة المحبة بين الإنسان وما يرغب أن يكون، باعتباره أساس أول للنجاح، مسجلاً بذلك وفي هذا المجال نزعته ورغبته الكبيرة منذ الطفولة المبكرة للقراءة وحب الكتاب والكتابة، وكذلك عشقه للصحافة وارتباطه بتاريخ البلاد وكل ما يرتبط بها من أحداث وحكايات ومرويات وشخصيات وتغيرات حضارية ومسيرة تنموية.
3- والخلاصة الثالثة التي يشير إليها القشعمي من خلال اعماله وما قدمه من منجزات مؤداها ان العمر ومهما امتد لا يقف عائقاً امام شغف الابداع والإصرار على العطاء فبرغم أن القشعمي لم يبدأ التأليف الا في سن متأخرة من عمره وتحديداً في عام 2001م، الا انه انجز أكثر من (50) كتاباً بخلاف الكتب التي شارك بها أو أشرف عليها او كتب مقدماتها.
4 – وثمة خلاصة رابعة تستحق أيضاً التوقف عندها وهي ولع القشعمي بجغرافيا المكان والتنقل لتحقيق المعلومة الصحيحة وتوثيقها ، وهو ولع ترك أثره في حياته وعلاقاته بالمكان فقد زار معظم مناطق المملكة من خلال محطات عمله ووظيفته ، كما زار العديد من البلدان العربية فكون عقله وروحه ذاكرة معرفية تتصل بالأماكن والبشر، وانعكست عليه ايجابياً في تكوين المزيد من العلاقات المثمرة والفاعلة التي مكنته من اقتناص الغنائم المعرفية وكلفته الكثير من العناء والبحث والتقصي والإصرار على الاكتشاف والرصد وإحياء المقصي في إيقاع زماننا المتسارع الخطى على حساب الماضي وكل ما يحمله من شواهد وأحداث وسير شفوية وتراثيه رصدها من صدور الرجال وكادت أن تكون في غياهب النسيان.
وليؤكد بذلك أن بلادنا ولله الحمد وعلى تنوعها الجغرافي تعد مكنز كبير للتراث والكنوز المنسية من المأثر والمخطوطات وعطاء الرجال والتي يجب الاهتمام بها والانتباه إليها كونها تعد ثروة وطنية لها قيمتها التاريخية والحضارية وأساس متين للهوية.
5– أما الخلاصة الخامسة ففيها علمنا الأستاذ محمد القشعمي ومن خلال مسيرته المزهرة أن القراءة في حياته التي بدأت معه من سن العاشرة كانت ومنذ ذلك السن تمثل في حياته فصل دائم ولا تعترف بالفصول ولا تعلو وتهبط درجاتها لديه من وقت إلى أخر، فهي الزاد والزواد والحاضرة لديه في كل وقت وحين، وقد كان شعاره الذي رفعه فوق مكتبه ابان عمله بمكتبة الملك فهد الوطنية (وخير جليس في الزمان كتاب).
6– وهناك خلاصة أخرى توضح مدى وطنية القشعميوحبه وارتباطه الكبير ببلاده تجلت في مشاركاته الخارجية وحرصه على حضور الكثير من الندوات والمناسبات والملتقيات الثقافية ومعارض الكتاب والتي ينقل فيها جوانب مشرقة من عطاء الوطن ومنجزاته وجهود رجاله المخلصين الأوفياء، وينقل فيها الصورة الحقيقية للوطن، ويقوم بإهداء وتوزيع الكتب سواء من تأليفه او من تأليف غيره للمفكرين والباحثين والأدباء العرب ولكل من يطلبها.
7– كما علمنا القشعمي وفي خلاصة أخرى أنه كان روض وفاء لوطنه ومواطنيه ولجمهرة المثقفين وسطر جانب مهم من معاني الوفاء عندما جرد قلمه بصحبة أخيه عبد اللطيف ليؤرخ لوالده الشيخ عبد الرزاق محمد القشعمي في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان (الشيخ محمد القشعمي لمحات من حياته الاجتماعية) ، والذي يحمل في طياته صور من بدايات البلاد والظروف المعيشية القاسية التي كانت تعيشها أيام طفولته وسنوات القحط والجوع والفقر، وما وكيف تحولت البلاد من صور البؤس والشقاء الى رقي وعيش رغيد ، وغدت واحة أمل وطموح واسطورة للنجاح اثارت اعجاب العالم وكل ذلك تحقق بفضل الله ثم بفضل قيادتنا الرشيدة حفظها الله.
8- ويلفت القشعمي الأنظار وفي خلاصة تالية ومن خلال كتابه عن الموسيقار السعودي الراحل (غازي علي)، وكتابه الأخر عن الفنان التشكيلي (عبد الجبار اليحيا) ومجموعة كتبه الأخرى عن السير الشخصية لبعض الأدباء إلى أن الأدب والفن من العوامل المؤثرة في المجتمع، وكلما ارتقى المجتمع ارتقت فنونه وآدابه، وانهما يسيران ويتطوران بشكل طردي مع الحراك الإنساني.
9- وملمح اخر وخلاصة أخرى نستشفها من سيرة ومسيرة الأستاذ محمد القشعمي وهو أهمية تواضع العالم العامل، والباحث المستنير للناس وطالبي المعرفة، فهو لا يتوانى عن خدمة كل من طلب منه معلومة او استشارة ثقافية سواء بالداخل او الخارج وهو ما وسع من معرفة الناس له فأكبروا فيه انسانيته وتواضعه، وقدروا عطائه ومنجزاته.
استاذنا الجليل محمد القشعمي كم أنت جدير بالكلمات التي تطرب الصفحات وأنت في الجزالة كشجرة تخلد جذورها في احشاء المعاني وتغرد اغصانها في سماوات الوعي ، واسمح لي في الختام أن اثني على شخصك الكريم وجهودك الكبيرة الثناء العاطر المستطاب ، وكل ما قلته هنا في حقك قليل من كثير، وهذه يدي امدها لأهزعلى يدك مصافحاً ومباركاً لك هذه المسيرة المشرقة بالعمل والعطاء والانجاز، ومهنئاً لك حصولك على هذا التكريم من نادي جدة الأدبي الثقافي ومن نخبة رجال الفكر والأدب والإعلام والصحافة الذين عرفوا فضلك حق المعرفة وقاموا بتكريمك خير قيام وأنت أهل لكل ثناء وتكريم.. وستظل (أبو يعرب) وأنت تعزف نشيد الأيام وتسكب رحيق الذاكرة مزملاً بالحب وتتذكر الفصول والمفاصل وتضيء صفحة الحياة وتملأ الجهات بالعمل المخلص، والأحلام المورقة، والهديل العذب الجميل، كتب الله لك طول العمر وحسن العمل وهدانا جميعاً إلى سواء السبيل .