كُتاب الرأي

نظرية نسبية النعم

 

نظرية نسبية النعم

تبقى النعم التي مَنّ الله تعالى بها على الإنسان وهي تحيط به من جميع الجهات الست ؛ عظيمة وجليلة ؛ وكذلك ما يمنّ الله تعالى بها ليلاً ونهاراَ وسراً وجهراً وتكاد تملأ حياة الإنسان في رحلته في الحياة الدنيا ، وتجري عليه من جميع النواحي والجهات ، فهو في وجوده نعمة عظيمة وكبيرة وتفيض بقية النعم عليه ظاهرة وباطنة عرفها أو جهلها ، ذكرها او نسيها ، شكرها أو كفرها !.

تبقى تلك النعم الكبرى والفضائل العليا محط أنظار العقلاء من الناس ، ليس في شكرها واستعمالها فيما يرضي المنعم عز وجل فقط وإنما في التعرف عليها وتحديدها ، وتحديد نسبتها على الإنسان العاقل الكيس الفطن اللبيب.

الناس في شعاب الدنيا وأوديتها يركضون وراء توفير احتياجاتهم وضرورياتهم ليلاً ونهاراً ، وصباحاً ومساء ، وحقيقة تلك الاحتياجات الضرورية والأساسية لا تنتهي ؛ وذلك السعي الحثيث لا يصلون من خلاله إلا إلى مزيد من سعي آخر وهكذا !.

وتضاريس الأرض الجميلة المتنوعة على صور الناس ؛ فالأرض ذات التضاريس الرملية الجميلة والتي لها طبيعتها وأمطارها وأشجارها وأجواؤها ، والأرض ذات التضاريس الصخرية الجبلية والتي لها كذلك طبيعتها وأشجارها وأطيارها وأمطارها ، والأرض ذات الطبيعة الساحلية الجميلة الهادئة والتي لها طبيعتها وألوانها وأجواؤها وأشجارها وأمطارها .

وجمال تلك البقاع والأراضي بإكتمال ما يُجمّلها ويُكمّلها من الأعلى الأجواء الصحية السليمة ، ومن الأسفل مساحاتها الواسعة والشاسعة ، خصوبة أراضيها ، ووفرة مياهها ! وزيادة الإهتمام من قبل أصحابها !

والبشر جميعاً وهبوا حظوظاً كثيرة وكبيرة من النعم الكبرى والفضائل العليا ، وظهرت تلك الفضائل والنعم العظيمة على كامل ظواهرهم وأسرار بواطنهم وذلك ينعكس على الظواهر اعترافاً وعبادة وشكرا لله تعالى المنعم العظيم .

تتعلق قلوب الناس وعيونهم فيمن غمرته النعم الكبرى والفضائل العليا في مكانته الاجتماعية، في وضعه المالي الإقتصادي ، في مكانته الوظيفية المرموقة ، في المكانة والدرجة العلمية والأدبية التي حصل عليها ، وتسعى في الإكثار من الحديث عنهم ، وتمجيدهم .

عقول الناس قبل قلوبهم ونفوسهم تعشق المقارنات ؛ والمفاضلات بين الناس، ثم ترتيبهم ، وجعلهم المعيار والمقياس ، وفي كل مجال من مجالات الحياة الطبيعية السليمة للناس معايير ومقاييس يقيسون بهه بعضهم ، ويرتبون بعضهم بعضاً ، ويفاضلون بين هذا وذلك بسبب عدد من المعايير والمقاييس والموازيين منها المال والجاه والمكانة والمستوى التعليمي ، والمستوى الإجتماعي .

طبيعة الناس أنهم يتفاضلون أي يختلفون في الألوان والأطياف والأشكال واللغات والثقافات والأعراق والأجناس ، وكذلك في نسبية النعم الكبرى والفضائل العليا التي تفضل الله تعالى بها عليهم !

على مستوى أولادنا في المدارس والجامعات نشاهد ذلك التفاوت والتفاضل بينهم فمنهم وقّاد الذكاء ! نبيه الفطرة والطبيعة حاضر البديهة مثلاً في بعض المواد الدراسية ؛ يسيطر على الصعوبات والتحديات التي فيها ، ويتفوق على أقرانه في هذه المواد الدراسية أو تلك ! بينما نشاهد هؤلاء المتفوقين والمتفوقات في المجالات الاجتماعية الإنسانية أو المبادرة والعمل التطوعي ! أو في بعض مجالات حياتية أخرى هم عاديوون جدا !

وهكذا سائر المخلوقات والموجودات والكائنات الحية وخصوصاً البشر يظهر بينهم ذلك التفاوت والتفاضل في نعم المنعم العظيم ، والمحسن والإحسان لا يكون في شؤون ومجالات الحياة المختلفة والمتباينة ، بل تظهر على البشر علامات النجابة والنبوغ في بعض الفنون ، وفي بعضهم الآخر تظهر بقية تلك العلامات من النجابة والنبوغ وهكذا سائر الناس !.

إن نسبية النعم بين الناس لا يعني مجموع النعم التي رزقها الله تعالى لمخوقاته من الكائنات الحيّة أنها غير متساوية ! كلا ! كلا !
وإنما نؤكد من خلال نسبية النعم على الكائنات الحيّة أن مجموع نعم الله تعالى العام على كل مخلوق متساوي متساوي تماماً مع المخلوقات الحية الأخرى !

فمن أنعم الله تعالى عليهم بالمال ربما حرموا من نعم عظيمة وكبيرة أخرى ! ومن أنعم الله تعالى عليهم بالأولاد ربما ضيق عليهم في المال ! ومن أنعم الله تعالى بالصحة والعافية ربما حرموا بعض نعم الله تعالى الأخرى وهكذا !.

كما يقال في علم الرياضيات : إن محصلة النعم الكبرى والفضائل العليا على جميع البشر على اختلافهم وتنوعهم تبقى واحدة ، في المجموعة وتتنوع وتتعدد في النسب بينهم ؛ فمن فضلوا في نعمة من النعم الكبرى والفضائل العليا ، فضل غيرهم في نعم أخرى .

يفهم العارفون والعلماء والفضلاء والاتقياء والأكياس ذلك حق الفهم والوعي والإدراك ؛ ولذلك يرون في تلك الحكمة الكبرى هي التكامل بين البشرية السليمة ، كما تتكامل أعضاء الجسد الإنساني الواحد في أداء وظائفها المختلفة والمتباينة ، فهذا الجهاز العظمي وذاك الجهاز العصبي ، وهذا الجهاز الدوري الدموي ، وذاك الجهاز الهضمي والجهاز البولي ، كل تلك الأجهزة تتكامل وتتعاون وتتناغم مع بعضها بعضا !.

تتجلى في نسبية النعم على البشرية السليمة والجميلة أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العليا ؛ فهو تبارك وتعالى العليم والعالم والعلاّم ، وهو تبارك وتعالى الرازق والرزاق وهو تبارك وتعالى الحاكم والحكم والحكيم فيما يُصلح البشرية السليمة وما يَصلح لها ، والغاية هي عبادة الله تعالى بها والتعارف والتآلف والتعاون بين الناس ، وإعمار هذه الأرض الجميلة المباركة .

قال شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي رحمه الله تعالى:

أَرى كُلَّنا يَبغي الحَياةَ لِنَفسِهِ

حَريصاً عَلَيها مُستَهاماً بِها صَبّا

فَحُبُّ الجَبانِ النَفسَ أَورَدَهُ التُقى

وَحُبُّ الشُجاعِ النَفسَ أَورَدَهُ الحَربا

وَيَختَلِفُ الرِزقانِ وَالفِعلُ واحِدٌ

إِلى أَن يُرى إِحسانُ هَذا لِذا ذَنبا

المصلح والمستشار الأسري
د. سالم بن رزيق بن عوض.

د. سالم بن رزيق بن عوض

أديب وكاتب رأي وشاعر ومصلح ومستشار أسري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى