كُتاب الرأي

غربتنا إحساس يرافقنا مدى الحياة / الجزء الثاني (تكملة)

محمد الفريدي

تتعدد تجارب غربتنا عندما نجد أنفسنا محاطين بأشخاص لا يفهموننا أو لا يشاركوننا نفس اهتماماتنا ووجهة نظرنا، فغربتنا هنا ليست مجرد شعور بالعزلة فقط، بل هي حالة شعورية عميقة تعكس عدم انسجامنا مع البيئة المحيطة بنا، ويمكن تبسيطها للقارئ بالقول بأنها تشبه أن تكون الشخص الوحيد المبصر بين مجموعة من الصم والعميان، ويتعذر عليك التواصل أو التفاعل معهم بفاعلية.

هذه الحالة هي ما تخلق فينا الشعور بالغربة في مجتمعنا، وتدفعنا إلى البحث عن منابر جديدة تعزز شعورنا بالانتماء والانسجام، ونعيد بها تقييم أنفسنا ومكانتنا في العالم، ونعزز قدرتنا على بناء علاقات أعمق مع من يشاركوننا نفس اهتماماتنا وأفكارنا فقط.

الغربة الحقيقية هي ألا نجد من يستمع إلينا، مع وجود الكثير من الأشخاص حولنا ممن يمتلكون آذان طويلة تتدلى إلى ركبتهم، ولكنهم لا يبالون بما يدور في أذهاننا أو مشاعرنا.
الغربة الحقيقية هي أن نكتب مجلدات مليئة بالأفكار العظيمة، ومع ذلك لا نجد قارئا واحدا يهتم بمحتواها أو يسعى لفهمها أو يثني عليها.

ولا تصل مرارة غربتنا إلى أشدها إلا عندما نكون الوحيدين الذين يشعرون، ويتفاعلون في مجتمع يغرق الآخرون فيه في الماديات والأوهام، ويتغافلون عن الحقائق التي تعصف بنا من كل حدب وصوب .
هذه الأنواع من الغربة تزيد من إحساسنا بالعزلة، وتجعلنا نبحث عن مجتمع يقدر قيمة أفكارنا ومشاعرنا، ويشاركنا رؤيتنا، ويقدر كل ما نقدمه له ويستحق ثقتنا.

تتعدد أسباب غربتنا، وتتفاقم في عالمنا اليوم، بسبب ما نشاهده من حولنا، فتأمل معي مثلا طفل يتيم يسير على قدميه بمفرده من مدرسته إلى منزله في عز اشتداد حرارة الشمس في الصيف، بينما يذهب زملاؤه إلى منازلهم في سيارات آبائهم؛ هذه هي الغربة المؤلمة والمؤلمة جدا، وما عداها ليست بغربة.

وأسوأ أنواع غربتنا هي تلك التي تصيبنا عندما نكون محاطين بالبشر من كل مكان فنتركهم، ونميل إلى التعايش مع الحيوانات التي نرى فيها وفاء وصدقا أكثر من بعض الأشخاص الذين يحيطون بنا.
في هذه اللحظات من لحظات غربتنا، ندرك معنى أن تكون الروابط الإنسانية هشة وغير موثوقة، ولا تدوم ابدا، ونشعر بان الحيوانات تقدم لنا نوعا مختلفا من الحب والوفاء والولاء غير المشروط الذي نبحث عنه بين البشر، ولا نجده إلا فيما ندر.

هذه التجربة القاسية تدفعنا دفعا إلى إعادة تقييم علاقاتنا مع الآخرين بحثا عن الصدق والعمق في التواصل، مما يعكس حاجتنا إلى بناء علاقات أكثر صحة وواقعية في عالم يمتلئ بالأكاذيب والمظاهر والأحاسيس المزيفة.

وأكثر ما يحزنني والله في هذه الأيام هو غربة العارفين بالله والعلماء الربانيين الذين يعيشون في مجتمع جاهل لا يعير اهتماما لعلمهم وقدراتهم الفكرية ومكانتهم العلمية.
هذا الشعور قاتل ومؤلم جدا، يُفني الواحد منهم حياته في التعلم والبحث والاستقصاء، ويقضي سنوات طويلة من عمره في صقل معرفته ثم لا يجد في النهاية من يستمع إليه أو يقدر علمه وإنجازاته وتاريخه.

إن هذه الغربة لا تعكس فقط انعدام تقديرنا للعلم والعلماء، بل تُظهر لنا أيضا مدى الحاجة إلى العمل معا على ترسيخ ثقافة احترامهم، فالعالم الذي لا نقدره اليوم، ولا نحترمه كما ينبغي يفقد مع الوقت فرصا ثمينة للتطور والنمو والبذل والعطاء.
وهذا التعامل يدفعهم للبحث عن مجتمعات أخرى تحتضن أفكارهم، وتقدرها، وتجعلهم يسعون إلى التواصل والاتصال مع من يشتركون معهم في نفس الرؤى والمبادئ والقيم، وقد يصل بهم الحال في أسوأ الحالات الي الانعزال او الهجرة.

في هذه السن و هذا الزمن الصعب، تعتبر غربتنا نوعا من أنواع المعاناة النفسية التي تؤثر على جودة حياتنا، فالشخص الغريب يعيش صراعا دائما بين رغبته في الانتماء وواقعه الذي يفرض عليه الغربة فرضا.
فمن هنا تظهر أهمية البحث عن مجتمع يشاركنا نفس أفكارنا وقيمنا، ويفهمنا ويدعمنا، ويكون له تأثير إيجابي كبير على حياتنا، ويعزز من شعورنا بالانتماء، ويخفف من حدة غربتنا.

لذا، يجب على كل شخص منا من الآن فصاعدا ان يسعى لتوفير السلام الداخلي مع نفسه، ومع محيطه، و أن يتطلع إلى بناء علاقات مع من يشاركونه نفس الرؤى والتطلعات، ويبتعد عن الآخرين الذين لا يشاركونه أفكاره، ولا يساعدونه على تجاوز شعوره بالعزلة، أو لا يمنحونه القوة لمواجهة هذه الغربة.

وفي النهاية، تبقى غربتنا تجارب إنسانية تعكس تعقيد تكويننا البشري، وتحثنا على السعي نحو الفهم المتبادل، وترسيخ علاقاتنا الإنسانية الحقيقية، فقد نكون جميعا غرباء في لحظات معينة، ولكن من خلال تواصلنا واحترامنا المتبادل نتمكن من خلق مجتمع أكثر دفئا وتقبلا.

لهذا، بادروا بالبحث عن تلك المساحات التي تمنحكم الشعور بالانتماء، وتجدون فيها الألفة والمشاركة الحقيقية، وستكتشفون أن غربتكم ليست نهاية الطريق، بل هي بداية لتشكيل علاقات إنسانية أعمق وأقوى، ومبنية على الفهم المشترك والدعم المتبادل مع الجميع.

كاتب راي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫5 تعليقات

  1. صباح الخير كاتبنا الكبير الأستاذ محمد على الفريدي رئيس تحرير صحيفة آخر أخبار الأرض.
    وكفانا وإياكم العمى والصمم البعيد عنك ورزقنا نعمة الأبصار والتّأمل فكريا فيما حولنا وتفاعلا مع مؤثرات البيئة في محيطنا كما تفضلت وأنتم الخبير ببواطن الأمور والكاتب الصحفي البارز في أعمدة الصحافة الرقمية وفي ظني أنك لو أقتحمت الصحافة الورقية في زمانها وقبل هذا التاريخ لتسيَّدت أعمدة الصحف الرقمية بهذه الجرأة والوضوح وكأني بك منذ تشرفت بمعرفتك تقارع الحجة بالأخرى اسلوبا وفكرا فمن واجب الصحافة الرقمية أن تكسبك كأبرز الكُتَّاب بدون منازع وياليل ما أطولك فزدنا بما في جبعتك من أدبيات العتب على كل من نتشرف أنهم الطاقة الإيجابية للكاتب والمفكر معا فعزلة الكاتب هي منعطف مهم في زمن كثرة الأطروحات وإن كان ما يُعْنِينَا هو الأهم والأكثر أهمية وأنا هنا أشاركك لماتطرقت إليه من عذب الكلام وجمال البيان.
    فصباحك صباح الإبداع 🌹
    * نائب رئيس التحرير

  2. فعلا ..
    العلاقات العميقة المختارة بعناية هي بلسم لحياة بدت غريبة
    بعضهم مورد نقاوم به شعور الاغتراب
    تكملة رائعة

  3. كفيت ووفيت أ محمد مقالان رائعان وذكرت فيهما الأنواع المختلفة للغربة ومايعتري النفس من شعور متعب ووحدة قد تصل بالفرد للإنعزال وتفضيل البقاء منفردا على التواجد مع من لايفهم ولايشعر..
    والحل الأفضل بالتوجه لله ثم محاولة التسديد والتقريب فبهما تلتئم الفجوات ويتم التعايش وتسير الحياة ..
    دام المداد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى