كُتاب الرأي

وطن لا يُدار من الخلف

وطن لا يُدار من الخلف

محمد الفريدي

في هذا اليوم، لا نحتفل بمجرد رقم جديد في تقويم سنواتنا، بل نُحيي ذكرى وطن وُلد من بين الركام والتشرذم والتفرّق والتفكك والتمزق والضياع، وشُيّد على سواعد الرجال، وأُعلن كيانه بدماء أبطاله وبصيرة قادته العظام.

وفي كل عام نُسجّل في دفتر الوطن أن دولتنا لم تكن صدفة جغرافية، ولا كيانا هشّا صنعه الاستعمار أو وُجد بضربة حظ، بل كانت إرادة صلبة ومشروعا تاريخيا وُلد من رحم الجوع والفقر والمعاناة، ليبقى عصيّا على السقوط، وأسمى من أن يُختزل في شعارات أو مناسبات، فهو قصة شعب آمن بذاته، وصاغ حاضره، ورسم مستقبله بعرق رجاله ودماء شهدائه.

هذا الوطن لم يُبنَ من فراغ، ولم يُصنع على طاولات السياسيين في العواصم الغربية، بل خرج من رحم الصحراء، ومن صلابة رجاله الذين حملوا السيف بيد، والإيمان في قلب، فأثبتوا أنهم شعب اختار أن يصنع مصيره بنفسه، لا أن يُملى عليه. فكل قطرة دم سالت، وكل روح صعدت، كانت لبنة في صرحه العظيم.

وفي كل عام، حين نحتفل بذكراه، فإننا لا نستعيد الماضي فقط، بل نؤكد للعالم أننا باقون، وأن رأيتنا التي ارتفعت يوما لن تُنكّس أبدا، وأن مشروعنا الوطني ليس صفحة تُطوى كما طُويت صفحات دول أخرى، بل ملحمة تُكتب كل يوم بجهد أجيال تتعاقب، وقادة يمضون نحو العلا والمجد والسؤدد، وشعب يزداد صلابة وعزيمة مع مرور الأيام والسنوات.

الخامس والتسعون ليس رقما عاديا، بل عنوان لتاريخ طويل من التحدي والصبر والنهضة. فهذا الوطن، الذي كان يوما صحراء قاحلة ممزقة، أصبح اليوم قبلة للقرارات ومركزا للثقل الإقليمي والدولي. ولم يصل إلى هذه المكانة صدفة، ولا بخيانة، ولا بمجاملة، بل عبر مسيرة طويلة من تضحيات شعبه وحنكة قادته، الذين أيقنوا أن السيادة لا تُوهب، وأن الهيبة والوحدة تُنتزعان بالقوة لا بالخطب الرنانة، وبالإنجاز لا بالتنظير. فلا هيبة لدولة تُصنع بالكلام، ولا كرامة لشعب يستجدي حقوقه واحترامه من الآخرين.

في تاريخنا الحديث، شهدنا شعوبا ودولا كثيرة أُذلّت حين باع قادتها حقها في تقرير مصيرها، وخانوا أوطانهم بتنازلات مهينة أمام قوى الاستعمار والهيمنة.

أما وطننا، فقد رفض الانحناء أمام الضغوط والابتزاز، وصنع مصيره بأيدي أبنائه. فكل قرار اتُّخذ، وكل معركة انتصر فيها، كانت شهادة على عزم شعب لم يعرف الذل طريقا له. لقد أدرك قادتنا أن الحرية لا تُمنح، وأن السيادة لا تُعطى، بل تُنتزع بالإرادة والصبر والتضحيات، وأن الأمة التي تفرّط في حقها لا تنتظر الاحترام من أحد.

نحتفل اليوم ليس بمرور الزمن فحسب، بل بتاريخ من الصمود والتحدي، وبشعب اختار أن يكتب مجده بعرق الرجال ودماء الشهداء.

وإننا اليوم، بكل فخر، نؤكد أن هذا الوطن باق بعزيمة أبنائه، وسيفخر به التاريخ، وستظل رايته خفاقة على مر الأجيال، شاهدة على صمود شعب لم يعرف الخضوع ولا الذل ولا الاستسلام.

وكثيرون منا يعتقدون أن مجرد رفع الأعلام وإقامة الاحتفالات يصنع وطنا، لكن الحقيقة أن الوطن لا يُبنى إلا بوعينا، ولا يُحمى إلا بثباتنا على ثوابتنا، ولا تُرسّخ أقدامه إلا بقراراتنا الحاسمة، وبقلوبنا المحبة للعدل والسلام، وعقولنا التي تُدرك، وأيادينا التي تبني. فلا عزّ لنا دون وحدتنا، ولا مستقبل لنا دون ذكر حسن يخلدنا. فالوطن مسؤولية الجميع، ونجاحه يتطلب تضافر جهودنا وإصرارنا على تحقيق التنمية والازدهار.

السعودية كانت ولا زالت تستمد عزّتها من رفضها الذلّ، ومن تاريخها المقاوم لكل أشكال الهيمنة الأجنبية. فمنذ تأسيسها وحتى يومنا هذا، ظلت سيادتنا خطا أحمر لا نسمح لأحد – كائنا من كان – بتجاوزه، وكانت كل قراراتنا تحمل في طيّاتها إصرارا راسخا على حماية هذا الوطن من التبعية، ورفض أي محاولة لاستغلاله أو التفريط في حقوقه وحقوق شعبه الأبي.

اليوم، في زمن التحديات الجديدة، لا يقلّ التهديد خطورة عمّا كان عليه من قبل، لكنه أصبح أكثر تعقيدا، وأخفى أقنعة؛ فبينما نحارب أعداء الوطن الظاهرين، يجب أن نكون أشد حذرا من أعداء الداخل، أولئك الذين يتسترون بعباءة الوطنية، ويسعون لتحويل إرادتنا إلى أدوات في يد غيرنا، فالحفاظ على وحدتنا وهيبتنا لا يقلّ أهمية عن كسب معاركنا في الميادين الأخرى.

علينا أن ندرك أن سيادتنا الحقيقية لا تُقاس فقط بالتخلص من النفوذ العسكري أو الاقتصادي، بل تبدأ من داخلنا: من قدرتنا على التفكير المستقل، ومن صياغتنا لقراراتنا بمعزل عن الضغوط، ومن رفضنا أن نكون صدى لأصوات الآخرين أو تابعين لأجنداتهم، مهما تلونت بالشعارات أو تدثرت بالحياد المصطنع.
فالسيادة الحقيقية تتطلب منا الثبات على قيمنا، والتمسك بوحدتنا، والعمل الدؤوب لبناء مستقبل يليق بطموحاتنا. فلا حرية تُبنى على الخضوع، ولا عزّ يكتمل إلا بكرامتنا، ولا اعتزاز بالنفس إلا بوعينا وصمودنا أمام الفتن، وأمام كل ما يفرّق ويشتت شملنا وشمل هذا الوطن.

ومن الضروري أن يتحوّل كل مواطن إلى حارس أمن لهويتنا ووحدتنا واستقلاليتنا، لا إلى متفرّج أو متخاذل؛ فالأوطان لا تُصان بالشعارات، بل بالوعي، ولا تُحمى بحمل الأعلام في الشوارع والرقص بها، بل بالمواقف، ولا تنهض إلا حين يدرك أبناؤها أن الاستقلالية لا تُمنح، بل تُنتزع بالإرادة الصلبة، وتُصان بالالتزام واليقظة.

ففي زمن تُقلب فيه الموازين سريعا، وتُفرض علينا تحديات متعددة الأبعاد، لا بد أن نتمسك بثوابتنا أكثر من أي وقت مضى، وأن نُحسن قراءة المشهد، وألّا نترك أي ثغرة يمكن أن تُستغل ضدنا. هذا هو الوطن الذي نريد أن نورّثه لأجيالنا القادمة: وطن قوي، موحّد، كريم، لا يستجدي أحدا، ولا يقبل بالإهانة من أحد.

ومن يقرأ التاريخ يدرك أن وحدتنا التي صنعناها لم تكن مشروع سلطة أو زعامة، بل كانت مشروع بقاء متكامل طويل الأمد؛ أطفأنا بها نيران الثارات بين قبائلنا المتناحرة، وجمعنا بها قلوبنا المتفرقة تحت راية واحدة، لا تحت شعارات كاذبة. وما بُني بتضحياتنا وتضحيات آبائنا لا يُصان إلا بالولاء، وما وُحّد بالدم لا يُحفظ إلا بالدم. فوحدتنا أمانة في أعناقنا، ومسؤوليتنا تتجدد في كل جيل، ومن يفرّط فيها فقد خان ماضينا، وأضاع حاضرنا، وقطع الطريق على مستقبل أبنائنا.

نحن لا نقدّس رموزنا وقادتنا كما يعتقد البعض، ولكننا نعظّم إنجازاتهم، ولا نخفي عن الناس أخطاءهم إذا أخطأوا، ولن ننكر الطريق الذي شُق بالصخر والدم والنار، لنعيش اليوم في ظلّ هذا الأمن والرخاء والنماء. ولن نسمح لأحد أن يقلّل من تضحياتنا وتضحياتهم وتضحيات من سبقونا، أو أن يعبث بما بنيناه لأجيالنا.

في يومنا الوطني، لا نريد استعراض الألوان الخضراء على الأرصفة بقدر ما نريد أن نسأل أنفسنا:
هل نحن على قدر المسؤولية التي ورثناها؟
هل نعكس اليوم حجم الطموحات التي أرادها لنا آباؤنا مع المؤسس؟
هل إعلامنا، ومثقفونا، ومناهجنا، وتربيتنا، تصنع أجيالا تملك وعيا لا ينكسر أمام الفتن؟

يومنا الوطني ليس مجرد مناسبة نعلّق فيها الأعلام في الشوارع والسيارات، بل هو يوم نراجع فيه ضمائرنا:
هل نحن أبناء أوفياء لهذا الوطن؟
هل واجهنا من خانوا العهد وطعنونا من الخلف، أم آثرنا الصمت وتركنا الطعنة تتغلغل في أجسادنا دون رد؟
هل قاومنا الطائفي، والفاسد، والمستغل، والمتسلّق باسم الوطن، أم تركنا الدرعا ترعى؟
هل رفضنا أن نكون أدوات لمعارك غيرنا، وأثبتنا قدرتنا على الدفاع عن سيادتنا ووحدتنا، أم تركنا أنفسنا دمى في يد الآخرين؟

في هذا اليوم المجيد، لن نسمح لأحد أن يختصر بلادنا في مهرجان غنائي، أو مقطع احتفالي، أو في اهتزاز وتمايل في المقاهي والمطاعم والشوارع؛ فالوطن ليس لحظة فرح لليلة واحدة والسلام، بل هو فكرة عظيمة، ومشروع حضاري مستدام، ورحلة كفاح مستمرة، وليس جغرافيا فقط لأناس دون آخرين، بل هو قضية، وحلم، وذاكرة، وتاج على رؤوسنا، ومسؤولية لا تُقسم، وحقٌ مقدس علينا أن نحافظ عليه ونصونه لأجيالنا القادمة.

في اليوم الوطني الـ95، لسنا بحاجة إلى من يبيع علينا شعاراته ومشاعره المستهلكة وعباراته المنسوخة والمكررة. نحتاج إلى من يعلّم المتخاذلين في الداخل والخارج أننا لسنا صفقة، ولا محطة وقود عليها علم، ولا ورقة في مهب المصالح، ولا سلعة في أسواق الأجندات، بل نحن وطن من نار ونور، ثابت على مبادئه منذ أن أقمناه، لا يرضى بأنصاف السيادة، ولا يُدار من الخلف.

فالوطن أكبر من كل ضعفنا وهفواتنا، وأقوى من أن ينكسر أمام العواصف العاتية؛ فكل نقد يجب أن يكون بنّاء ووسيلة للنهوض، لا سلاحا لإسقاطه أو تدميره. والحب الحقيقي للوطن يكمن في العمل الصادق، والوفاء المستمر، والدفاع عنه بكل ما نملك من قوة وإرادة.

اليوم الوطني الـ95 فرصة لنقول لكل مسؤول، ومثقف، وإعلامي، ومواطن:
كفى مجاملة، وكفى تباهيا بما تحقق؛ فالوطن لا يعيش على أمجاده السابقة، بل على همة أبنائه اليوم.
كفى تلميعا للأسماء، فالسعودية أكبر من كل الأسماء.
كفى تسويقا لانتصارات وهمية؛ فالناس ترى، وتفهم، وتُحسن المقارنة والقراءة.

هذا الوطن لا يحتاج إلى كاتب مرتزق، ولا ناعق بما لا يعي، ولا متسلق داخلي أو خارجي، بل يحتاج إلى من يكتب في وجه الخوف بما يؤمن به، لا بمقياس البُعد والقُرب، ولا بمعيار القبول والرضا.

فكل عام والوطن يمضي بثبات، ولا يلتفت إلى التطبيل والتصفيق، ولا ينتظر الضوء الأخضر من أحد. كل عام ورايتنا خضراء، وقلوبنا بيضاء، وضمائرنا حيّة، لا تساوم على الحق والوطن، ولا تصمت على الباطل، ولا تخشى في حب الوطن لومة لائم.

كل عام ونحن أقل ضجيجا، وأكثر عملا،
ونزداد تماسكا، ونتحدى الصعاب،
ونبني مستقبلا نفتخر به، ونحميه بقلوبنا وعقولنا، ونعاهد الله أن نبقى أوفياء مهما كانت الظروف وزادت الصعوبات.

كل عام ونحن نزرع الأمل في كل زاوية من زواياه، ونرفع رايته فخرا واعتزازا، ونكتب تاريخا جديدا يروي قصة وطن لا يعرف الانكسار.
كل عام ونحن نثبت للعالم أن صمودنا وعزيمتنا هما درع الوطن وحصنه المنيع، وأبناء الأرض التي لا تُقهَر.

كل عام ونحن نواصل المشوار بعزم لا يلين، وإيمان لا يتزعزع، ونصنع مستقبلا يليق بعظمته ونخلّد ذكراه. كل عام ونحن نحمي ترابه بدمائنا، ونرفع رايته شامخة فوق كل العواصف، ونعلن للعالم أن عزيمتنا لا تنكسر، وأن وطننا منارةٌ للفخر والكرامة.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫3 تعليقات

  1. ما شاء الله لا قوة إلا بالله!
    نسجت من الحروف الكلمات، وأبدعت في صياغة العبارات، فأجدت وأفدت في الطرح القيّـم الممتع.
    شكرًا أبا سلطان على هذا الطرح الذي يفيض فكرًا وأسلوبًا.

  2. شكراً بحجم السماء,
    أبدعت وكتبت بما يختلج في نفس كل مواطن سعودي شريف،
    مخلص لله ثم للملك والوطن
    الوطن إنتماء وعشق ووفاء وإخلاص
    الوطن بقاء وديمومة وتأمل وعطاء
    شكراً سعادة الكاتب الموفق المميز
    أبدعت وسطرت ما يستحقه الوطن
    في اليوم الوطني 95 …
    تحياتي ودعائي بدوام قلمك السيال

    اخوكم / حزام ال فاهده

    1. سعادة الأخ العزيز حزام آل فاهده حفظه الله.
      أشكركم جزيل الشكر على كلماتكم النبيلة التي غمرتني بصدقها ودفئها، وما خطّه قلمكم الكريم يُعد شهادة أعتز بها. فالوطن يستحق منّا جميعا أن نسطر لأجله كل حرف وفاء، وأن نترجم انتماءنا وعشقنا وولاءنا له قولا وعملا.

      إن كلماتكم الطيبة تزيدني إصرارا على المضي قدما في خدمة ديننا وقيادتنا ووطننا العزيز من خلال القلم والكلمة الصادقة.

      حفظ الله وطننا وقيادتنا، ودام عزّه شامخا في القلوب والواقع، وكل عام وأنت والوطن بألف خير .
      أخوكم / أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى