كُتاب الرأي

واقعنا الثقافي الهش في مفترق الطرق

محمد الفريدي

واقعنا الثقافي الهش في مفترق الطرق

هذا الواقع الثقافي الهش الذي نعيشه اليوم لم يأتِ بالصدفة أو بضربة حظ، بل هو نتيجة لأسباب ودوافع مقصودة ومخطط لها بعناية.
لقد تم التلاعب بثقافتنا، وأعيد تشكيلها عدة مرات لتتناسب مع مصالح شخصيات محددة على مر السنوات الماضية، فغابت القيم الحقيقية، وحلّت محلها المصالح الضيقة التي لا تخدم إلا قلة قليلة من الناس.

نحن أمام مشهد ثقافي مشوّه لا يرضي أحدا، مشهد تسيطر عليه الأنانية والمصالح الشخصية، تطغى فيه المصالح الفردية على الروح الجماعية التي كانت تُميّزنا.
وعلاقاتنا الاجتماعية والثقافية باتت تُبنى على المصالح والعلاقات الشخصية، واختفت قيم التعاون والنزاهة التي كانت تُعدّ أسسا قوية في مجتمعنا المتماسك.

ما نعيشه اليوم هو تدهور في كافة الأصعدة الثقافية، حيث أصبحت المحسوبيات هي الحَكَم، والنجاحات الشخصية تُقاس بمدى قدرتنا على استغلال علاقاتنا وسلطاتنا، وليس بالكفاءة أو الاستحقاق.
هذا الواقع المزري ينعكس على حياتنا اليومية حتى فقدت ثقافتنا معناها الحقيقي، وأصبحت مجرد قشور سطحية لا قيمة لها ولا وزن.

إن الثقافة، التي كان يُفترض أن تكون أداة لتنوير العقول وتحفيز الابتكار، أصبحت مجرد وسيلة لتحقيق أهداف شخصية ضيقة، تُستخدم لتلميع شخصيات معينة وإقصاء أخرى، وفقا للمصالح المتبادلة. وبالتالي، نرى التلاعب بكل شيء من أجل الحفاظ على هذا الوضع الذي يخدم قلة قليلة ويُهمل الأغلبية.

هذا الانحدار لن يتوقف ما لم يتمكن المجتمع من استعادة وعيه والعودة إلى قيمه الأصيلة التي تجمعنا وتوحدنا. فالناقد اليوم لم يعد ينتقد إلا أعمال أصدقائه، ليطبل لهم، ويضعهم في مصاف العمالقة من أمثال العقاد والحكيم وطه حسين وغازي القصيبي، ويتجاهل أعمال الذين لا تربطه بهم مصلحة مباشرة.
والدكتور، لا يعير اهتماما إلا لحملة الشهادات العليا، ويزدري أصحاب المؤهلات الأدنى، وكأنهم لا يستحقون اهتمامه أو وقته.

أما الصحفي والإعلامي، فهما باتا يعملان فقط بما يخدم مصالحهما الشخصية، ضاربين عرض الحائط بالمهنية والقيم الصحفية.
أصبح إعلامنا (شربة) وأداة لتلميع من يدفع أكثر، بدلا من أن يكون صوتا للحق والحقيقة.

حتى الدعوات للمؤتمرات والفعاليات والورش أصبحت توزع بناء على المحسوبية والمعرفة الشخصية، ولم يعد هناك مكان للمهنية والكفاءة.
تُوجه الدعوات لأشخاص بعينهم، لا لأنهم الأجدر أو الأكفأ، بل لأنهم مرتبطون بمصالح مع منظمي تلك الفعاليات.

والأسوأ من ذلك، أن القدوات الذين كنا نقتدي بهم لم يعد لهم وجود فعلي، فقد انغمسوا هم أيضا في مصالحهم الشخصية، وتخلوا عن رسالتهم الحقيقية في التأثير الإيجابي وإلهام الآخرين.
أصبح من الصعب في هذا الزمن العثور على نماذج يُحتذى بها، بعد أن طغت المصلحة الشخصية على القيم والمبادئ التي كنا نعتز بها.

هذا الوضع الفاسد لم يقتصر تأثيره على النخب فقط، بل طال الجميع.
حتى القارئ أصبح يختار كتبه بناء على محاباته لهذا الكاتب، وذاك، وليس بناء على القيمة الحقيقية لما يقرأ.
لقد تحولت ساحتنا الثقافية إلى مسرح للفوضى التي تحكمها المصالح الشخصية والأنانية، ففقد المثقف دوره الحقيقي كمرشد وناقل للمعرفة، وفقد المشاهد والقارئ متعة الاستفادة والمشاهدة والقراءة.

والنتيجة الطبيعية لهذا التدهور هو تراجع الثقافة بشكل عام وتدهور المجتمع والصالح العام.
فعندما تُسيطر المصلحة الشخصية على كل شيء، لا يبقى مكان لتطور حقيقي أو نهضة فكرية.
بل تتعطل المسيرة الثقافية التي كان يُفترض أن تكون قوة ناعمة دافعة للتغيير الإيجابي والإصلاح.

ولهذا إصلاح هذا الوضع ليس بالأمر السهل، بل هو تحدٍ يتطلب جهدا جماعيا ووقتا طويلا.
نحتاج إلى بناء أجيال جديدة تُربى على قيم النزاهة، والاحترام المتبادل، والابتعاد عن المصالح الشخصية، ونتعلم أهمية الثقافة الحقيقية ودورها في تعزيز المجتمع، وندرك أن المثقف والصحفي والناقد والدكتور هم قادة فكر ورأي، وليسوا أدوات لتلميع هذا، وذاك وتحقيق مكاسب فردية.

فمن خلالهم فقط نعيد تأهيل مجتمعنا ثقافيا وأخلاقيا، ونستعيد دور المثقف الحقيقي، وننهض بالصالح العام، وإصلاح هذا الوضع يتطلب ثورة ثقافية حقيقية تبدأ من القاعدة، فلا يمكن إصلاح ما فسد في ثقافتنا وسلوك مجتمعنا دون العودة إلى الأساسيات، مثل القيم الأخلاقية والمبادئ التي قامت عليها المجتمعات القوية الأخرى.

فينبغي أن تكون ثورتنا الثقافية شاملة، تبدأ من التعليم المبكر، وتركز على غرس روح المسؤولية والاحترام المتبادل، وتشمل إعادة النظر في الأدوار التي يلعبها المثقف والناقد والصحفي والأكاديمي، وتوجيههم نحو خدمة المجتمع بصدق وإخلاص.

فإذا كانت المحسوبية والأنانية قد دمرت قيم العمل والتفكير الحر فيما مضى، فإن الأمل يكمن في بناء أجيال جديدة تُقدّر المعرفة لذاتها، وتسعى وراء العلم والثقافة من أجل تطوير ذاتها ومجتمعها، لا من أجل تحقيق مصالح شخصية ضيقة.

يجب أن تكون هذه الأجيال محصنة ضد إغراءات المحاباة والفساد، وأن تتبنى مبدأ الاستحقاق والشفافية، وحدها الأجيال التي تُغرس فيها هذه القيم منذ الصغر هي القادرة على بناء مجتمع يرتكز على العدالة والثقافة والمعرفة الحقيقية.

والتعليم يلعب دورا رئيسيا في هذا التحول، ويغرس في عقول طلابنا أهمية العمل الجماعي والاحترام المتبادل، ويعيد هيكلة مؤسساتنا الثقافية لتصبح بيئات تحتضن التفكير الحر والمفكرين، بدلا من أن تكون أدوات لتعزيز المصالح الضيقة والولاءات الشخصية، والمدارس والجامعات يجب أن تصبح منصات لتخريج جيل يُدرك أهمية التعاون والإبداع.

ويجب أن تُعزز وسائل الإعلام دورها في هذه العملية، لتكون وسائلاً لنشر الفكر الحر وإعلاء قيمنا المجتمعية، بدلا من التركيز على الشخصيات التي تعزز مصالحها الخاصة وتلمعها.

الإعلام يجب أن يسهم في تشكيل وعي جماهيري نظيف، ويعزز من قيم النزاهة والشفافية، فمجتمعنا بحاجة إلى قادة مفكرين حقيقيين يمتلكون رؤى واضحة، ويتحلّون بالنزاهة والصدق والمصداقية.
هؤلاء هم من يجب أن يكونوا قدوة يُحتذى بهم، وتُسلط الأضواء عليهم، بعيدا عن الشخصيات التي تروّج لنفسها في الإعلام فقط، وتشتري الحضور والشهرة والشعبية بطرق ملتوية.
يجب أن نستعيد الثقة المفقودة بين المثقف وجمهوره، فالمثقف الحقيقي لا يسعى وراء الشهرة والمكاسب المادية السريعة، بل يعمل من أجل رفعة مجتمعه وازدهاره فقط، ووسائل الإعلام هي من تسعى إليه.

يجب علينا أن نشجع هؤلاء القادة الحقيقيين، وأن نوفر لهم المنابر اللازمة للتعبير عن أفكارهم.
وحماية الثقافة وتطويرها يجب أن تكون أولوية قصوى لدى أصحاب القرار، وأن يتخذوا خطوات ملموسة تعزز من قوة المشهد الثقافي، من خلال دعم المبادرات التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وتعليم القيم الأخلاقية المرتبطة بها، وتشجيع المبدعين والمفكرين على التعبير عن أفكارهم بحرية، وتحفيز النقاشات البناءة التي تسهم في تطوير مجتمعنا.

بهذه الطريقة، نستطيع بناء ثقافة غنية ومتنوعة تعكس تنوعنا الثقافي، وتُعزز من مكانتنا بين الأمم، وتجعل من ثقافتنا مصدر فخر واعتزاز للجميع.

زبدة القول: عندما نعيد الاعتبار للقيم الثقافية الأصيلة، فإننا نفتح بذلك الطريق نحو مستقبل أفضل للأجيال القادمة، وتصبح ثقافتنا مصدر إلهام ودافع للتغيير الإيجابي، وتعزيز التعاون بين الأفراد والمؤسسات الحكومية.
ونخلق بيئة ثقافية غنية ومزدهرة تشجع على التفكير والإبداع، فالاستثمار في ثقافتنا يعني استثمارا في مستقبل أبنائنا ومجتمعنا، والإرادة القوية والرؤية الواضحة تظل هي أساس التغيير، فلذلك يجب أن نعمل معا لبناء ثقافة ترتقي بفكرنا وسلوكياتنا، ونواجه التحديات بشجاعة وشفافية، من أجل مستقبل يعكس تطلعاتنا الحقيقية، لا أن نستمر في تلميع هذا، وذاك على حساب قيمنا ومبادئنا وثقافتنا.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫3 تعليقات

  1. شكرا سعادة رئيس التحرير الأستاذ محمد علي الفريدي على هذا الطرح الأكثر جرأة كونه يشكل نسيجنا الثقافي وموروثنا الحضاري فالحقيقة تبقى دائما محط أنظار الناقد الذي يهدف إلى نشر الوعي العام وتمنية ثقافة المجتمع مع تعدد التوجهات التي هي من نعول عليها بتنقية ثقافتنا بما يرتقي للأفضل ويعطي إنطباعا يؤكد معنى مفهوم الثقافة السعودية التي تنظر إليها النخب الثقافية في عالمنا العربي في المؤتمرات والمنتديات وتعبر عن روح وأصالة المجتمع السعودي.

  2. ولازالت أزمة الأخلاق والقيم والمبادىء مسيطرة كما ذكرت ..
    وهي أساس مافيه نقص وعيب وفساد ..
    اللهم ردنا إليك ردا جميلا ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى