لماذا لا نرمي الشيطان في أنفسنا ؟!

د. عبدالرحمن الوعلان
لماذا لا نرمي الشيطان في أنفسنا ؟!
رجم الجمرات هو شعيرة من شعائر الحج، وهي أحد مناسك الحج، حيث يرمي الحاج سبع حصيات على “الجمرة الكبرى” في مشعر منى، اقتداءً بسيدنا إبراهيم عليه السلام حينما اعترضه الشيطان ليثنيه عن تنفيذ أمر الله بذبح ابنه، فرماه بالحجارة لطرده.
إن المغزى الروحي من الشعيرة هو:
امتثال أمر تشريعي، رفض لغواية الشيطان، وتجديد العهد مع الله، والتخلّي عن المعاصي والذنوب.
لكن الفلسفة الأعمق أن نتعلّم كيف نرجم شياطين أنفسنا كل يوم…
ليس بحصى، بل بصدق التوبة، وشجاعة الاعتراف، ومحبة الآخرين.
ثانيًا: لماذا لا نرجم “شياطيننا” الداخلية في أنفسنا؟
إن الشياطين التي تسكن في داخلنا وتظهر ملامحها في الكراهية، والحقد، والحسد، والغرور، والظلم وهذه الأفكار السلبية لا تُرجم بالحجارة، بل تحتاج إلى: تقوى الله ووعي صادق، وتوبة حقيقية، وجهاد نفسي مستمر.
لو أن كل إنسان واجه هذه الشياطين بقوة مثلما يرمي الحصيات في منى، لأمكن لنا أن نعيش بقلوب أنقى ومجتمعات أعدل.
إن الشر الذي في داخلنا يحتاج إلى رمي كما يرميها الحاج، لماذا؟! لنسلم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وليعزز الخير.
إن ملامح صراع الإنسان مع الشيطان في ضوء الدين والفكر والفلسفة تبرز في ملامح ففي موسم الحج، يقف الحاج أمام شعيرة رمي الجمرات وكأنه يواجه الشر وجهًا لوجه. يرمي الحصيات السبع وكأنها سبع قرارات روحية:
يرمي ويكبر ويخلع من نفسه وساوس الشيطان، وغواية النفس، وظلمة الهوى.
لكننا نعود لنسأل أنفسنا لماذا لا نرمي الشر في نفوسنا كما نرمي جمرة العقبة؟
لماذا نمارس الطقس الديني نفسه، وننسى ما يرمز إليه؟
إن صراع الإنسان مع الشيطان صراع أزلي، وملحمة كبرى بين الخير والشر.
منذ أن قال إبليس: “فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ”، بدأ الصراع الأبدي. لكن الشيطان لا يأتي بهيئة مرعبة، بل أحيانًا يأتينا في صورة فكرة، أو لذة، أو منطق مغشوش.
قال أفلاطون: “أشد أنواع الظلم هو أن يتصور الإنسان أنه عادل بينما هو مملوء بالشر.”
وهذا هو دَيدَن الشيطان: أن يُجمّل لك الشر حتى تظنه حقًا.
ويقول أحد الفلاسفة على لسان الشيطان: “أنا جزء من تلك القوة التي تريد الشر دومًا، وتصنع الخير أحيانًا.” تعبير فلسفي عن التناقض في وجود الخير والشر، وكيف أن الشر قد يكون محفزًا للبحث عن النقاء، والصفاء، وكتب المعري في “لزوم ما لا يلزم”: “إبليسُ أطغى من يطيقُ تألهًا، لكنْهُ في الأصلِ عبدٌ خاسرُ”
يريد أن يذكرنا بأن إبليس – رغم قوته في الإغواء – ليس إلا عبدًا متمردًا لا سلطان له على من عصمهم الله.
وقال جلال الدين الرومي:
“الشيطان ليس مخلوقًا منفصلًا عنك، بل هو جزء من نفسك التي تختار طريق الظلام.”
وكأنه يعيد تعريف المعركة: ليست مع كائن خارجي، بل مع ظلّ النفس.
الأنبياء: منارة في طريق درء شر وساوس الشيطان.
الأنبياء هم النماذج التي قاومت الشر لا بالكلام، بل بالفعل.
• إبراهيم عليه السلام رجم الشيطان في وادي منى، وكان رميه إعلانًا بالرفض لوساوس الخوف والشك.
• يوسف عليه السلام لم يخضع لمكر النفس، بل قال: “رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ”.
• محمد ﷺ مجاهدة النفس وكأن يرى جهاد الشيطان مجاهدة كبيرة للنفس والجبهة الأصعب.
رمزية الرمي: سبع حجارة ضد سبعة أعداء.
كل حجر نرميه في منى يمكن أن يرمز إلى عدو داخلي: كأن يكون كِبرًا أو حسدًا أو حقدًا ورياءً أو هوى أو ظلمًا أو كسلًا عن الطاعة أو نسيانًا وغفلة، وغير ذلك من جوانب الشيطان.
“الشيطان يسكن في التفاصيل”، أي أن الشر لا يظهر صاخبًا دائمًا، بل يتسلل خفية في اختياراتنا الصغيرة. والرمي كفعل يومي.
الشر لا يُطرد مرة واحدة. إنه يعود، ويطرق بابك كل صباح.
وهنا نستلهم من أقوال الشعراء:
قال إيليا أبو ماضي:
“نَفسي تُعَلِّمني الصِّراعَ وَإِنَّني
أَخشى النُّفوسَ السَّاكناتِ المُطمئنَّهْ”
وقال أحد المفكرين العرب:
“كل ما هو شيطاني، يشبهني حين أنظر إلى المرآة دون وضوء.”
خاتمة: لنجعل من قلوبنا مِنى.
في الحج نرجم الجمرة، لكن خارج الحج، أين نرجم الشر؟
رمي الجمرات رمز يجب أن يتحول إلى منهج حياة. أن تكون لنا “منى” الداخلية، نرجم فيها الشر أينما ظهر.
إن أعظم انتصار على الشيطان ليس أن تحاربه، بل أن تحرر نفسك من مستعمراته في داخلك.
قال أحد المفكرين: “الشيطان لا يُدخل السوء إلا من باب فتحتَه أنت.”
فلنغلق الأبواب، ولنرجم بصدق، لا بحجارة، بل بأعمال، ونيات، ويقظة قلب.
معد برامج تلفزيونية وإذاعية وكاتب رأي