نادي القصة
قناديل اغتنمها قبل أن تنطفئ

قناديل اغتنمها قبل أن تنطفئ
سألتني وهي تنظر إليّ بعينين تشعّان نورًا كاشفًا لتوتري:
“كيف حالك اليوم؟”
أجبتها متأففة:
“دوام وواجبات عائلية.”
ابتسمت ونظرت إلي نظره حاده ، وقالت: من لايشكر يكفر ، السخط يزيل النعم !
“رزق وفير في ساعات قليلة، وعائلة كبيرة أحضانها مفتوحة على الدوام.”
عبارتها الأولى مع تلك النظره ، لسعتني كتيار كهرباء هزني من الداخل ، واشعرني بالخوف .
فكرت ، ووجدت أني أعود لمنزلي ظهر كل يوم، قبل زوجي وأبنائي، وأن لدي وقتًا لأجهز غداءنا، ووقتًا طويلًا بعدها للراحة والجلوس مع أبنائي.
وتذكرت قريبتي التي ينتهي دوامها مع غروب الشمس، والتي أوشكت أن أنسى بعض ملامحها لعدم قدرتها على حضور اجتماعاتنا العائلية.
شعرت بنعمة الله عليّ، وقدّرت وظيفتي، ووقتي، وعائلتي، وارتاحت نفسي، واستمتعت بتلك الأمسية.
“كانت مُحدّثتي جدةً لأمي من بعيد.”
لطالما أعجبتني، وكثيرًا ما أحببتها. في كل مرة ألتقيها وأحادثها، تعلق في ذاكرتي بشكلٍ أجمل مما مضى.
نحيلةُ الجسم، ليست بالطويلة ولا بالقصيرة، رَوقاءُ العينين، ابتسامتها لا تفارق شفتيها.
رائحةُ بخورها مميزةٌ، لا تشبه بخور الأخريات. أغلب ملابسها بسيطةٌ ومنقوشة، تشبه ملابس جدتي الراحلة، وكلها بموضة اللباس التقليدي “الكُرتة” التي تنساب طياتها على خصرها النحيل، وكأنها طفلٌ ملتصقٌ بأمه.
عجوزٌ أشرفت على السبعين، لكنها جميلةٌ. لم تعطني شيئًا ماديًّا أبدًا، لكنها تُصلح في نفسي عيوبًا كثيرة، بحديثها العذب المليء بالحكمة.
تزيل الغشاوة عن عيني، فتُبدّد ظلامًا في داخلي، وكأنها تزيل طبقةً رقيقةً عن رسالةٍ غائبة، أو كأنها طبيبٌ جرّاحٌ يزيل الماء الأبيض من العين؛ فتبصر ما لم تكن تراه.
أسلوبها غريبٌ من نوعه: بسيطٌ، وصادقٌ، لم أقابل في حياتي من يتحدث كما تفعل.
لا تنسى أحدًا من أهلي؛ في كل مرة تقابلني فيها، تسأل عنهم باهتمام، كأنها تعرفهم وتحبهم بعمق.
متفائلةٌ؛ إن سمعت كلمةَ تذمّرٍ مني أو من غيري في المجلس، ذكّرتنا بالقدر وبنِعَمِ الله علينا.
في كل لحظة تجعلك تشعر أنك إنسانٌ سعيد، وأن ما يشغلك ليس سوى تفاهات لا تستحق الإلتفات.
تفعل هذا دون وعظٍ مباشر، أو تكلّف، أو حتى إحساسٍ منها بأنها “تُصلح” أحدًا؛ إنها تُغيّر فيك بصدقها وصفائها أشياء كثيرة، تُصحّح مفاهيم خاطئة يصعب على غيرها تعديلها.
سبعينيّة تُشعل قناديلها في قلب الظلام، فأرى نهاية رحلتها بداية لطريقي..
أدركتُ أن وجودها في حياتي وحياة من يعرفها نعمةٌ.
فهي كالبلسم للروح. وقليلون أولئك الذين يُشبهونها .
كبارُ السنِّ من حولك كنزٌ قد يختصر عليك مشقّات الحياة؛ فهم يحملون قناديل الحكمة في يد، ومفاتيح القلوب في اليد الأخرى.
أشخاصٌ كهؤلاء هم من نحتاجهم؛ لنكشف عن كل ما هو جميل في داخلنا، ونجعله يعلو ويسمو بمراحل كثيرة فوق الأشياء السلبية التي كانت تتساوى مع الإيجابية فينا.
انهم يرفعون التسامح ، مقابل الانتقام، والدعاء بالخير مقابل الانتقاد، أو حتى يجعلونك تنظر لشخص لا يعجبك من زاويةٍ أخرى؛ فترى مميزاتٍ له مع عيوبه.
إنهم كالبُدورِ المكتملة، لا يعرفون المحاق… يضيئون لغيرهم حين يكتمل الضوء في دواخلهم.
فتش حولك فربما تجد قنديلا عتيقا يضيء لك عتمتك.