كُتاب الرأي

ضحكات تائهة

 

هل شعرت يومًا أنك تتقيأ جزءًا منك من شدة ما تشعُر به ؟ كأنك ترغب في سحب كل أشلائك التي تقطُن بداخلك كي يمتلئ الفراغ، ويخف الحمل، لكنك لا تستطيع فعل أي شئ، فالمرء لا يسلم من أحداث حياته المؤلمة ،والمواقف التي تعتصره حتى يصفو، ولا يصفو إلا من ضحكته التائهة التي طال بحثه عنها، أحداث تختزل صفو يومه ،وشهره ، وعامه سواء في نفسه ،أو فيمن هو منه عزيز عليه ما يَمسُّه، ولكن بعض الفواجع، وقعها مرير، ولا يكاد يُحتمل، كمن يفقد أسرة كاملة في لمح البصر، فيفقد السند الذي يتكئ عليه ،والقلب الذي يأوي لهُ بعد الله، ولهفة الحنين المنزوية في أحضان عائلته، وكأنما رحل كل شئ، وأنطفأ توهجٌ كأن العالم يراهُ في عينيه، إلا من ربط الله على قلبه، وثبته ، وأعانه.
كانت الساعة بعقارِبُها البطيئة جدًّا، والمُتقاعصة ،تشير إلى الحادية عشرة صباح يوم الجمعة، السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك.
كنت قد دعوت زميلا لي من مدينة بعيدة ليزورني، ويتناول طعام الإفطار في منزلنا، ومن ثم نذهب سويا إلى مكة لأداء العمرة كي نغسل قلوبنا في مناسكها، وقد أخبرت الأهل بتجهيز ما يلزم للضيف، ولكن حالت دون الفرح بمقدم الضيف ، والاحتفاء به، صرخات أطفال أخي غير المعتادة في مثل هذا الوقت ، نهضت من نومي فزِعًا مُرتابًا ،وكأن شيئًا هجم على جوفي، وأثقل تفكيري، وخطواتي، ما الخطب؟
حتى مر بي أحد الأطفال ليقطع توقعاتي السوداوية ، ومحاولة محاربتها ألف مرة، فقال لي:
نورة وقع عليها حادث، ويمكن ماتت ، توقف الوقت، وأخذ معه شيئًا مني، كأنه اجتث جزءًا بسحبهِ من فاهي، ثم جالت في خاطري ألف نورة ، فهذا الاسم متداول بكثرة في محيط أسرتنا ، فقلت له : عن أي نورة تتحدث ؟ قال نورة عمتي .

هُنا في هذا الموقف، أرغب بأن أستيقظ ، ما أسخف هذا الحلم الذي يأبى إفلاتي، متشبثٌ بي كأنه لا يملك سواي،ولا يستطيع إلا أن يكون في ذاكرتي، يارب ما هذا الذي أسمعه؟
ذهبت إلى غرفة أمي، وإذ بها تحاول الاتصال يمنةً ، ويسرة ،مكسورة ، جريحة فكيف لا تكون كذلك، وفي رأسها تجول فكرة منزوية ،مُظلمة ، ولا تعلم ماذا تفعل ؟ تريد أن تتأكد ،وهي أكثر من يبحث عن نفي هذا الخبر، وصحته، وأن يكون مُزاحًا قاسيًا بدلاً من الحقيقة المروعة. أخذت هاتفي، واتصلت بقريب لنا ، فقال : حدث لها حادث مروع مع أطفالها ، ولا نعلم عنهم شيئا إلى هذه اللحظة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لم أعلم أن الطريق يطول، وأن الشوارع قد تضيق بالفعل، حتى ركبت أنا ، وأمي ،وأخي سيارتي متجهين للقصيم، دون أن نعلم ما أصابهم سوى وقوع حادث لهم ،كانت المسافة تتجاوز الـ ٣٠٠ كم، وأعتقد في ذلك اليوم تضاعفت ثلاثة مرات.
ونحن في الطريق اتصلت بقريب آخر لنا ، وسألته : بشرنا وطمنا عن نورة ؟ قال: يا سلطان الله يرحمها ، وأحسن الله عزاؤكم فيها .
تقطع قلبي، ولم أظهر شيئا من الألم ، والبكاء خوفا على أمي ، فسألتني أمي: ماذا يقول؟ قلت: يا أمي اليوم هو يوم الجمعة ، وفي العشر الأواخر من رمضان ، أبشرك الموت في هذا الوقت فضيل، ونورة اختارها الله في هذا الوقت ؛لأنه يحبها نورة ماتت، وهي صائمة .
لم تبكِ، أكثرت من التسبيح، والذكر ، والدعاء، وبعد أن قطعنا مسافة اتصلت به مرة أخرى، وسألته عن البقية، فقال: أحمد لحق بأمه أحسن الله عزاؤكم ، وكان أحمد قائد السيارة .
يارب اربط على قلوبنا ، أحسست أن قريبنا هذا لم يخبرني بكل التفاصيل عن البقية، وأراد ألا يفجعني مرة واحدة، أستجمعت قواي، وأخبرت أمي بأحمد، لا أسمع إلا تسبيحًا، واستغفارًا ،وحمدًا، وشكرًا.

توقفنا بجانب الطريق، وصلينا العصر، تلك الصلاة التي تشعر فيها أنك لا ترغب إلا في إطالة السجود حتى ينسكب كل ما فيك، وتأتي مُستقبلاً للقبلة ،وأنت لا تحمل من تلونات الدنيا وتحفظاتها مثقال ذرة ،فتتجرد داعيًا ، وباكيًا أمام العظيم الرحيم الذي تسع رحمته كل شئ، ومن ثم أكملنا مسيرنا ،وفي كل مرة أتصل به يقول فلانة ماتت، تهاني ، ثم هنادي، وبقيت أمل، الآن توجهوا بها للمستشفى ، وهي الأمل لنا في هذه الأسرة ، ليبقى لنا شئ من رائحة نورة فيها، ويشعرنا بوجودها بيننا، وأمل لم تتجاوز الثالثة عشرة من العمر، بقيت في المستشفى يومين، ومن ثم لحقت بالبقية، وكأنها تقول : لن أدعكم تذهبوا، وتتركوني لوحدي.
كانت الأسرة مكونة من أختي نورة، وابنها أحمد، وبناتها أمل ، وتهاني، وهنادي ، كانوا متجهين لشراء ملابس العيد ، واختارو هذا الوقت بالتحديد الساعة العاشرة صباحا لكي يتجنبوا زحام الأسواق، كلهم ذهبوا في حادث مروع بسبب غفوة نوم من سائق السيارة الأخرى التي اصطدمت بهم ، وهو كذلك توفي، وله قصة مؤلمة أيضًا ، فأخبرنا والده لاحقًا أنه أتى ليفرح بقدوم مولودته الأولى، فلذة كبده التي لم تلامس أطراف أصابعها الصغيرة، والناعمة ، يدي والدها الممتلئة بالأمان ، والسند، حيث جرى بينه ، وبين والده اتصال، وأخبره بتعبه من السفر، وعدم قدرته على إكمال الطريق ، فأشار عليه والده بأن يرتاح ، ورد عليه قائلاً : لن أنام إلا عند ابنتي، كان حُلم اللحظة أن ينام قريرًا تحت سقفٍ واحد يجمعه بابنته، لكن مشيئة الله كانت الأسبق، ولا اعتراض على حكم الله، وأمره دائمًا للمؤمن خير.
لم تفرح نورة بالعيد معنا ، ولم نستطع سماع معايدتها في صباح ذلك العيد الذي كان يعمه الهدوء، وأصوات التعازي القابعة في رؤوسنا بدلاً من التهاني، ولم يستطع ذلك الأب أن يحتضن مولودته الأولى ، وأن يؤذن في أذنها ، ويأتي العيد ، لتردف التهاني بعد أن يقدموا عبارة أبو فلانة ، لكنكم وإن شاء الله في مكان أفضل من هذا المكان الذي كنا سنجتمع فيه.
من أصعب اللحظات التي عشتها في حياتي، ولن تفارق وجوههم ذكرياتي، وما أصعب ذلك السفر عندما توجهنا إليهم صائمين ، وفي كل اتصال نفقد حبيبا، وقطعة من قلوبنا، كانت مأساة عظيمة في لمح البصر ، يأتيك خبر موت أسرة كاملة ، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وبقيت تلك الضحكات تائهة لا عزاء ولا سلوان ، إلا أن الأحبة في جنات عدنٍ يلتقون.

 

سلطان المرشدي

‫2 تعليقات

  1. مقال جدا مؤثر💔
    أسأل الله أن يرحمهم جميعا ويغفر لهم ويسكنهم الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب و والدي وجميع موتى المسلمين آمين يارب💔

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى