غصّة الانكسار
حصة محمد الجهني
غصّة الانكسار
في زحام يومٍ ممتلئٍ بصخب الطالبات، بالحروف التي تُكتب، بالأصوات التي تعلو ثم تخفت، بالآمال التي رُسِمت وأوشكت أن تصبح واقعًا، حيث لاحت لنا أضواء النهايات، فنحن نقف على العتبات الأخيرة من الفصل الدراسيّ الثاني، في هذه الأثناء جاء ذلك النداء من الإدارة يهتف باسمي. كنتُ حينها أضع بصمات الإنجاز الأخيرة على أحد الأعمال المكلّفة بها، تركتُ ما بيدي وتوجهتُ إلى حجرة الموجهة الطلابية في المدرسة. سألتُ في دهشة: “ما الأمر؟” وفهمتُ أن الإدارة استدعت إحدى الأمهات لمناقشة سلوك ابنتها، وكنتُ طرفًا في هذا الاستدعاء بحكم أنني معلمة لهذه الطالبة. ومن خلف نافذة صغيرة في قلبي، رأيت المشهد كله يتجلى أمامي كما لو كان لوحة مرسومة بالألم.
دخلت الأم، تجرّ قدميها بثقل، وعينيها تسبقانها بالرجاء. بدت كمن يُقبل على معركة بلا سلاح، لكنها أُجبرت على خوضها. جلست أمامنا، لا كأمٍّ أفنت عمرها في التربية، بل كمذنبةٍ تنتظر الحكم. كانت الإدارة تعلم أن الأمر ليس سهلًا، لكن دورها ودوري كمعلمة يفرضان علينا مواجهة هذه المواقف مهما كان ثقلها!
بدأ الحديث، والعبارات تنهال كسهام تخترق جوفها. كنتُ أراقب ملامحها وهي تصارع الموقف بين الدفاع والصمت، بين أن تبرر، أو أن تبتلع غصّة الألم.
أغمضتْ عينيها، وطأطأت رأسها، ثم بدأ صوتها، وكأنها تنتزع الكلمات انتزاعًا: “لقد حرصتُ على تربيتها، هي وإخوتها، بعد وفاة والدهم وهم ما زالوا صغارًا، علمتها الصواب، حاوطتها بالدعاء، فكيف أجد نفسي اليوم هنا، في موضع لا أستحقه؟!”
كانت كلماتها قليلة، لكنها صوّرت قصة كفاح الأمهات جميعًا. في صوتها المبحوح نبرةُ أسى وخيبةُ أمل، فابنتها هي مشروع حياتها، وحبلها الذي ظنّته لن ينقطع.
كنتُ أنظر إليها وأتساءل… أهو استدعاءٌ لتأديب ابنتها وتعديل سلوكها، أم أنه استدعاءٌ للخذلان؟
صمتٌ يعقب كلماتها، ومن ثم حاولنا إقناعها بأن المشكلة يسيرة، وطرحنا أمامها الحلول، لكنها لم ترَ في كل ذلك إلا حكمًا على سنين أمومتها. لم أستطع المكوث أكثر، استأذنتُ بالخروج بعد أن قبّلتُ رأسها، وبعد دقائق رأيتها تخرج، وكأنها تحمل فوق كتفيها ثقلًا من الخيبة، تسير بتثاقل، وكأنها تجرّ خلفها تعب السنين.
في تلك اللحظة، تمنّيتُ لو أن التربية كانت طريقًا مستقيمًا بلا عثرات، لو كنّا أكثر رحمةً بقلوب الأمهات…
تمنّيتُ أن تخرج هذه الأم لتفاخر العالم بإنجاز ابنتها، لكنّها خرجت، تاركةً خلفها غصّة الانكسار!!
كاتبة رأي
👍👍👍👍