كُتاب الرأي

“النزاعات البشرية في مرآة الحقيقة”

 

“النزاعات البشرية في مرآة الحقيقة”

منذ أن وطئ الإنسان أولى خطواته على تراب هذه الأرض، كانت النزاعات رفيقة ظله، تمشي معه حيثما مشى، وتسكنه كما يسكن المدى.
لم تكن الحروب طارئة على مشهد الحياة، بل كانت مثل الفصول: تتكرر، تختلف ملامحها، لكن جوهرها لا يتبدل. فمن قبائل تنازعت على الماء والكلأ، إلى إمبراطوريات تمددت على أجساد الشعوب، إلى حروب عالمية اشتعلت بنار الطمع وتكالبت على فتات الهيمنة، ظل الإنسان هو الإنسان… لا يرتوي من الصراع، ولا يمل من السلاح.
“وكم من فتنٍ في الأرضِ قامتْ
لها الإنسانُ صانِعُها الطّغاةُ”
قديماً، كان المقاتل يمضي إلى ساحة المعركة يحمل سيفه، ورايته، وأهازيجه التي تغنّى بها كأنها مرثاة مبكرة. أما اليوم، فالحرب لا تحتاج لسيوف، ولا تستأذن الزمن؛ تكفي ضغطة زر، أو وميض شاشة، أو عنوانٌ متخم بالتحريض، لتشتعل المعركة في القلوب والعقول.
يقول الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز: “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، لكننا نتساءل:
هل كان الذئب القديم أكثر شراسة، أم أن ذئب اليوم بات يُغلف أنيابه بابتسامة ناعمة، ويوزع عواءه عبر مكبرات الإعلام؟
إن الذئاب الحديثة لم تعد تهاجم من الظلال، بل من خلف كاميرات فائقة الدقة، وشاشاتٍ تبث الدم والدمع معًا.
“ومن لم يذق مرّ الحروبِ بعينهِ
رأى الحربَ في شاشاتِ بثِّ العناوينِ”
قديماً، كانت الدماء تُسفك على التراب، واليوم تُراق على صفحات الأخبار، تُلوَّنُ وتُمنتَج وتُعيد تشكيل الواقع بطريقة أكثر إيلامًا من السيف.
كل صورةٍ تُلتقط، كل طفلٍ يبكي أمام عدسة، كل وجهٍ متجهم، كل علمٍ يحترق، ليس مجرد حدث، بل وقود لرواية جديدة… قد تُلهب قلوب الملايين، أو تُشعل حربًا لا تُطفأ بسهولة.
وهكذا، لم يعد الإعلام مجرد ناقل للحدث، بل صار شريكًا فيه.
فهو يصنع الشعور الجمعي، يبني الخوف ويهدم الثقة، يُضخّم الحدث حتى يصبح أكبر من حجمه، ويعيد تكراره حتى يتحوّل إلى كابوسٍ يومي.
“وإذا النفوسُ تكدّرتْ من غيّها
أعماقها لا تُجديها المرآةُ شيئًا”
ولعل أول دراما إنسانية، قصة قابيل وهابيل، لم تكن بحاجة إلى عدسات ولا بث حي، كانت قصة حقد خالص، غيرةٍ سوداء، وضحيةٍ بريئة.
لكن قابيل اليوم لا يحمل حجراً، بل يحمل خطاباً، وشعاراً، وإعلانات ممولة، ومنصات تروّج لحكاية واحدة: “نحن ضدهم”، “هم خطر”، “نحن الضحية”.
يقول جورج أورويل: “لو أن الحروب تُخاض بالكلمات، لكان العالم أكثر سلاماً”، ولكن الإعلام اليوم لا يكتفي بالكلمات… بل يصنع المشاعر، يُبرمج الرأي، ويُعيد ترتيب الأعداء وفق مصالحه.
فما الذي تغير؟
النزاعات ما تزال هي ذاتها، لكن وسائل إشعالها تغيّرت. لم تعد تقتصر على المدافع والسيوف، بل أصبحت تشتعل بكلمة، بصورة، بترند.
العوامل التي زادت النار اشتعالًا في العصر الحديث:
1. التوثيق والتضخيم الإعلامي
النزاعات قديماً كانت تموت في مكانها، أما اليوم، فكل مشهد يحمل جواز سفر عالمي.
الإعلام لا يخلق النزاع دائماً، لكنه يُغذّيه، يضخّمه، ويُعيد تأطيره كأنها ملحمة تستحق المشاهدة.
2. السرعة والانتشار
وسائل الإعلام الحديثة جعلت كل نزاع محلّي يبدو كأنه أزمة كونية، تُبثّ لحظة بلحظة، بلا توقف، بلا هوادة.
3. الحالة الشعورية الجمعية
الإعلام لا ينقل الخبر فقط، بل يخلق شعوراً: هلعًا، غضبًا، شفقة، أو رغبة في الانتقام.
يصوغ وجدان المتلقي كما يصوغ النحات تمثاله.
4. تغيّر شكل النزاع
من معارك الفرسان إلى الحروب النفسية، الاقتصادية، الرقمية.
لم يعد النزاع قتالاً ماديًا فقط، بل أصبح حربًا على الإدراك، على الوعي، على الروح.
وهنا يبرز السؤال الذي لا يهدأ:
هل الإعلام مسؤول عن النزاعات؟
الإعلام ليس القاتل، لكنه أحيانًا يصير شريكًا في الجريمة.
هو لا يحمل البندقية، لكنه قد يكتب البيان الأول للمعركة.
قد يبني جسور الحوار، أو يشيد جدران الكراهية.
“فإما نورُه يهدي القلوبَ
وإما نارُه تحرقُ الدروبَ”
خاتمة القول النزاع ما زال كما هو، ينمو في تربة النفس البشرية، لكنه صار أكثر تأثيرًا لأن الإعلام صار سمادَه وماؤه وضوءه.

ويبقى الخيار:
هل نريد إعلامًا يعكس الحقيقة مثل مرآة ناصعة؟
أم إعلامًا يضخّمها مثل عدسة معوجّة؟
أم إعلامًا يوقد نارًا في الظلام… لا تنطفئ؟

بقلم د.عبدالرحمن الوعلان
معد برامج تلفزيونية وكاتب مسرحي

 

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى