كُتاب الرأي

الدجاج الأبيض تهزه هيك يجي هيك

محمد الفريدي

كان القذافي، عليه من الله ما يستحق، من غروره واستعلاءه، يصفنا ويصف إخواننا الخليجيين، بسبب ملابسنا وغترنا البيضاء وطاعتنا لولاة أمرنا بـ (الدجاج الأبيض)، وكان يقول بلهجته العامية بطريقة ساخرة:
(الشعب السعودي كيف الدجاج الأبيض، تهزه هيك يجي هيك).

مع ان حياة الليبيين اليومية كانت، ولا تزال مسرحا لصراعات لا تنتهي، نراهم مساكين يتساقطون في دوامة التنافس على السلطة والمكانة، وهذا الصراع يعيدنا إلى أبسط أشكال الحياة التي نراها في الكائنات الأقل تطورا، مثل الدجاج الذي كان يصفنا به القذافي القائد الأعلى للدجاج، ويعكس جانبا مظلما في النفس البشرية من خلال قبول الدجاج بالإهانة من الأسر التي تربيه وعيشه ضمن نظامها المغلق.

من وجهة نظره تمثل الشعوب الخليجية المسالمة الدجاج الأبيض التي ترضى بالتدجين والخضوع، ويرمز للحياة المحصورة في دائرة محدودة من الخيارات.
تغيب عنها الحرية والمعرفة، وتظل طوال حياتها محصورة في طقوس البقاء دون أن تتطلع إلى الحرية والتغيير.

ويعتقد المعتوه أن تشبيهه لنا بهذا التشبيه يجعلنا نقع في الفخ، ونصدق أننا شعب بلا كرامة، ولا نملك حرية التفكير واتخاذ القرار، تماما مثل شعبه المدجن الذي لا يُسمح له إلا بترديد الشعارات الثورية الفارغة التي تمجده وتُرضي غروره.

طبعا هو يقصد من وراء تشبيهنا بالدجاج الأبيض أننا شعب يُدجن في حظائر، ويُنقنق ويفخر مزهوا بما لديه، ومحصور في مساحات ضيقة يتحكم فيها أشخاص آخرون.

ولا يدرك أنه جعل من شعبه شعبا جاهلا بمثل هذه الأفكار، لا يسعى للمعرفة، ويختار الجهل بدلا من ارتقاء سلم المجد، ويشبه الدجاج في قبوله للقيود التي فرضها عليه بمعتقدات كتابه الأسود دون أن يحاول التحرر منها لأكثر من أربعين عاما، ولكن، كما يُقال: (من خلق ليزحف لا يستطيع الطيران).

في الحقيقة، ليست القدرة على الطيران هي ما يميز البشر عن غيرهم، بل الرغبة في التعلم والتغيير والرقي.
على مر أربعة عقود، عاشت أجيال متعاقبة من الليبيين تحت وطأة غياب الأمن والعقل والمعرفة التي فرضها عليهم زعيمهم الأوحد، مما أنتج مجتمعا ليبيا فاشلا غير قادر على التوافق والانسجام والبناء والازدهار، وفي المقابل، من سخر منهم، ووصفهم بـ (الدجاج الأبيض)، ما زالوا يعيشون أحرارا، ويتمتعون بالتعليم الراقي والأمن والاستقرار، ويسيرون بخطى ثابتة مع حكامهم نحو مستقبل أكثر ازدهارا، وسيد الغباء والتخلف الليبي لم يدرك أن الأمن والمعرفة هما حجرَا الزاوية لأي ازدهار حضاري، وبدونهما لا يوجد أمل في الاستقرار والتقدم، حتى كانت نهايته المأساوية على يد شعبه الذي أخرجه من مجرى الصرف الصحي، وقتله ورمى بجثته للكلاب.

(دجاج الحواري، والعشوائيات، والشعارات الجوفاء)، بعد مرور اثني عشر عام على الحروب الأهلية في ليبيا، ما زالت البلاد تعيش في فوضى مستمرة، وغياب للتنظيم، نتيجة افتقارها للقيادة الحكيمة والتعليم الجيد، فضلا عن الأمن الذي زعزعه القذافي باستبداده وسياساته ونظرياته الخنفشارية، ما أدى إلى حالة من الضياع الشامل، فنجد اليوم الشباب الليبي بلا ولاء حقيقي للوطن، ويفتقرون إلى تقديس العمل وروح المسؤولية.
فكيف يمكن لجيل تربى تحت حكم القذافي وتخريفاته الثورية أن يبني دولة أو يقود وطنا في المستقبل القريب؟!

وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نغفل عن تأثير الفكر الخاطئ والمضلل الذي زرعه القذافي في عقول الليبيين لعقود طويلة، فقد كان يستخدم شعاراتٍ خداعة براقة تحمل في طياتها الكراهية والتحريض على كل ما هو حضاري وتقدمي، ولم يكن هدفه بناء دولة قائمة على العلم والمعرفة، بل كان يسعى إلى إبقاء الشعب في دائرة الجهل والضياع، ليتسنى له التحكم بمصيرهم بدون مقاومة تُذكر.

على مدار سنوات حكمه الطويلة، قمع كل من حاول الارتقاء بعقله أو سعى إلى فتح آفاق جديدة للمعرفة، وكان التعليم بالنسبة إليه مجرد وسيلة لإبقاء الشعب خاضعا، لا أداة لتمكينهم من التحرر والنهوض ببلادهم، فقد دمر المؤسسات التعليمية بشعاراته وتخاريفه وفلسفاته الشاطحة، وحارب الفكر المستنير، حتى أصبح جيلا بكامله يعاني من تدني مستوى التعليم وافتقارهم للرؤية المستقبلية التي يمكن أن تخرج ليبيا من دوامة الفوضى.

لقد تحولت ليبيا في عهده إلى حقل تجارب لأفكاره الغريبة، والتي لم تسهم إلا بتفكيك النسيج الاجتماعي، وتشويه هوية الشعب الليبي.
وبالرغم من رحيله، إلا أن آثار سياساته الكارثية ما زالت قائمة، تعيق أي محاولة جادة للنهوض من جديد، فالفوضى التي نشهدها اليوم في ليبيا هي نتيجة حتمية لعقود من التهميش. والفساد، والعبث بأموال الشعب، والإهمال الذي عاشته ليبيا تحت حكمه البغيض.

وعلى النقيض من هذا، نجد أن الدول التي استهزأ بها في كل مناسبة، ووصف شعوبها بالدجاج الأبيض، قطعت أشواطا كبيرة في مسيرة البناء والتطور، فقد أدركت هذه الدول منذ زمن بعيد أن التعليم هو المفتاح للنهوض، وأن الأمن والاستقرار هما الركيزتان الأساسيتان لأي مجتمع يسعى للتقدم ﻭ الازدهار، بينما ليبيا، التي كانت في يوم من الأيام من أغنى الدول بفضل ثرواتها النفطية، تعاني اليوم من الانهيار على كافة المستويات، وكأن لعنة الاستبداد القذافية ما زالت تطاردها.

لا يمكن لأي أمة أن تنهض من دون الاستثمار في عقول أبنائها، فالأجيال الجديدة هي الأمل الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم، وعلى ليبيا أن تعيد بناء نفسها من جديد على أسس ثابتة تضمن التعليم الجيد، وتوفر الأمن والاستقرار، فهذه هي المكونات الأساسية التي يمكن أن تفتح الباب أمام مستقبل أكثر إشراقا.

وعليها أن تدرك أن الشعوب الخليجية المسالمة و على رأسها السعودية ليست (دجاج أبيض) ينتف ريشه، ويُساق إلى مصيره المحتوم دون ان يكون لها خيار، بل هي شعوب قوية ترفض التدخل في شؤونها، ولا تصدق كل ناعق، ومهما حاول أعداءها أن يُحكموا قبضتهم عليها، تظل أرواحها حرةً أبيّة، تبحث اولا عن الأمن والأمان والسلام والمعرفة، وإن فُرضت الحرب عليها تلتف حول قيادتها وتحارب.

كاتب رأي

 

 

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫8 تعليقات

    1. أختي الأستاذة الفاضلة نعيمة، أشكرك جزيل الشكر على كلماتك الجميلة والمشجعة ، و سعادتك بما كتبت يعكس روحك الوطنية ووعيك العميق.
      نحن نفتخر بأن عزتنا من الله وحده، ولا نلتفت لما يقال عنا، فالحقيقة دائما واضحة لكل ذي بصيرة.
      تحية تقدير واحترام لك ولمرورك الكريم الذي أضاء مقالتي، وأتطلع دائما لقراءة آرائك القيّمة ، و تقبلي فائق احترامي وتقديري.
      أخوك / أبو سلطان.

  1. من لم يعش حياتنا، لن يفهم لما نحن هكذا. سيصفنا بأسوء الاوصاف يبدوا ان امننا واماننا وحبنا واخلاصنا لوطننا وولاة امرنا اتعبهم كثيرا، فوجدوا شتمنا ووصفنا بهذه الاوصاف حرب نفسية قد تجعلنا فريسة سهلة لحربهم الاعلامية ولكن هيهات ثقافتنا وعلمنا انار عقولنا ولن نقع في فخاخهم، ولن ينوبهم الا تقليد اصوات النابحات خلف قوافلنا السائرة شكرا لك عندما يستهويني المكتوب تسيل قريحة الادب فيني فأسهب.

    1. الأستاذة الفاضلة آمنة، ما أجمل أن تسهبي في الكتابة بكلماتك الرائعة ، فأنا أستمتع بردودك وكتاباتك شعرا ونثرا.
      كل كلمة ما شاء الله تكتبينها تنبض بالحكمة والقوة، وتعكس وعيك وثقافتك العالية .
      نعم سيدتي ، من لم يعش حياتنا لن يفهم لماذا نحن متمسكون بقيمنا وحبنا لوطننا وولاة أمرنا ، ومهما حاولوا بالفعل إضعافنا بالحروب النفسية أو الإعلامية، فإن ثقافتنا ووعينا هما الحصن المنيع الذي يحفظنا من تلك المحاولات البائسة ، و هم لن ينالوا منا كما ذكرت سوى تقليد أصوات النابحات على القوافل في القوائل ولن يؤثر نباحهم في مسيرتنا.
      أشكرك على هذه الردود الجميلة التي تلهمني، وتدفعني للاستمتاع بكل ما تسطرينه من أدب رائع.
      أخوك / أبو سلطان.

  2. التاريخ لا يرحم
    فالرئيس الليبي معمر القذافي لم يقدم مايشفع له ويحفظ كرامته وإنما كان يمارس الكثير من السلوكيات التي لا صلة لها بالقادة والزعامة وإنما كان يعيش شخصية غير سوية بعيدة عن البروتوكول الرسمي ففي الأمم المتحدة على منصة الخطابة عندما مزَّق بعض الأوراق التي كانت بيده ويسجل له التاريخ موقفا أغضب الأمير ماجد بن عبدالعزيز أمير منطقة مكة المكرمة رحمه الله عندما استقبل القذافي في إحدى زياراته للمملكة يحيط به مجموعة من الحرس الشخصي والذي يتكون من صبايا فاتنات الجمال مما أغضب الأمير ماجد هذا التصرف الذي هو أقرب للفوضوية والإستهتار بالأنظمة القائمة التي تحترم الحضارات وهناك العديد من المواقف المشابهة ومنها موقفه في إحدى مؤتمرات القمة برئاسة فخامة الرئيس محمد حسني مبارك رحمه الله عندما أساء أدبه أمام الحاضرين فغضب الملك عبد الله بن عبد العزيز وكان يومها وليا للعهد ورئيس الوفد السعودي في مؤتمر القمة مما أضطر الملك عبد الله أن يرد عليه ردا عنيفا.

    1. شكرا أستاذنا أبو معتز على مداخلتك القيمة وتحليلك العميق.
      بالفعل، التاريخ مليء بالدروس والعبر، ولا يرحم القادة الذين يتجاوزون حدود اللياقة والاحترام في مواقفهم.
      ما ذكرته عن القذافي يعكس حقيقة تصرفاته التي لم تكن تتماشى مع ما يُتوقع من قائد بحجم رئيس دولة ، تلك المواقف التي سجلها التاريخ، سواء ما كان منها في الأمم المتحدة أو في المؤتمرات العربية، كانت مؤشرا يدل على شخصية غير سوية في القيادة ، وتقبل فائق تقديري واحترامي.
      أخوك / أبو سلطان

    1. شكرا أستاذة ابتسام على كلماتك الطيبة ، و مرورك من هنا يعني الكثير لي ، ويحفزني على مواصلة الدفاع عن قضايانا.
      أسأل الله أن يوفقنا جميعا لخدمة وطننا والرفع من شأنه ، و تقبلي فائق تحياتي
      أخوك / أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى