وطن لا يقبل بالإهانة، ولا ينحني لأحد

محمد الفريدي
كان ياما كان في سالف العصر والزمان، وقبل الحكم السعودي، رجل عربي فقير يعمل مع أسرته في قصر فخم يعود للحاكم العثماني فخري باشا الذي كان شاهداً على قصة كفاح تلك العائلة الفقيرة التي تبحث عن لقمة العيش الكريمة بين جدران قصر علج لم تجد فيه إلا الإهانة …
عمل الرجل وأبناؤه، بسبب المجاعة التي ضربت البلاد بجد واجتهاد في القصر، مقابل مأوى يأويهم، وقوت يسد رمقهم.
وفي ذات يوم، طلب من ابنة الرجل طلب أشعل نار الكرامة في قلبه، طلب مس شرف ابنته، وحط من قدرها، فثار الرجل رافض ذلك الإذلال، ومفضل قسوة الطرد ومرارة التشرد والموت جوع على أن يدنس شرف ابنته، وعندما سأله كبير الخدم عن السبب قص عليه قصة ذلك الطلب فقال باستغراب :
_ ليتك غضضت الطرف، وكأنك لم تر شيئاً …
فأجاب الرجل بعزة النفس العربية وأنفة الأحرار.
_ هذه ابنتي، نظر عيني، فكيف أرضى لها أن تداس كرامتها أمام ناظري؟
كل شيء يعود إلا الكرامة إذا ذهبت لن تعود.
هنا تكمن العبرة من القصة التي تتجاوز حدود تلك العائلة البسيطة الفقيرة، فالدول الضعيفة التي تجبر اليوم على تقديم التنازلات المهينة، والقبول بإملاءات الدول القوية من أجل الحفاظ على مصالحها ليست دول لها كرامة.
وتلك القصة تذكرنا فقط بأن هناك حدود لا يمكن تجاوزها، وأن كرامتنا الوطنية وحقوقنا ليست للمساومة، أو المقايضة، أو المساس بها.
إنها رسالة تؤكد على أن الاحترام المتبادل هو أساس بناء العلاقات الدولية العادلة القائمة على الندية، بعيدا عن سياسة الكيل بمكيالين، وفرض السيطرة والنفوذ بالقوة …
ففي عالم تحكمه المصالح، وتعقد فيه الصفقات على حساب القيم والمبادئ، هل يمكن للكرامة بالله عليكم أن تصمد أمام إغراءات القوة والمكاسب؟
وهل تصبح حبراً على ورق عندما يتعلق الأمر بعلاقات الدول، خاصة بين الحلفاء؟
لا شك أن التحالفات الدولية ضرورية في عالم اليوم، فهي تشكل صمام أمان للدول، وتحصنها من المخاطر، لكن، يبقى السؤال الملح إلى أي مدى يمكن التنازل في سبيل هذه التحالفات؟
وهل يسوّغ الحفاظ على علاقة ما، مهما كانت أهميتها، التغاضي عن التجاوزات التي تمس جوهر سيادتنا وكرامتنا الوطنية؟
يسلط الواقع الراهن بيننا وبين الولايات المتحدة الأمريكية الضوء على هذا التساؤلات الملحة، فعلى الرغم من عمق العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، إلا أن أصوات ناقدة بدأت ترتفع داخل المملكة وخارجها مستنكرة بعض التصرفات الأمريكية التي تعد تدخلاً سافر في شؤوننا الداخلية، بل وحتى تجاوزت حدود الأدب واللياقة والأعراف الدبلوماسية، ونحذر من مخاطر السكوت على مثل هذه التجاوزات، فتاريخنا علمنا أن التجاوزات المتكررة تضعف موقفنا، وتجرئ الأطراف الأخرى علينا لتقديم المزيد من التنازلات …
إن المعادلة صعبة ومعقدة، ولا توجد إجابات قاطعة وسهلة، ولكن الواجب يحتم على جميع الدول سواء كانت كبيرة أو صغيرة، أن تحدد خطوطها الحمراء بوضوح، وأن تدافع عن سيادتها وكرامة شعبها، دون مهادنة أو تفريط.
فالتاريخ يشهد أن الشعوب لا تنسى من يبيع كرامتها، ولا تسامح من يُضَحَّى بمبادئها في سوق المصالح والتحالفات …
وفي خضم العلاقات الدولية وتعقيدات الدبلوماسية المتشابكة، تشكل الصحافة الوطنية الحرة الضمير الحي والرقيب الأمين على مصالح الوطن، لا سيما عندما يتعلق الأمر بسيادتها وكرامة شعبها.
فدور الصحفيين والكتاب لا يقتصر على نقل الأخبار وتحليل الأحداث فقط، بل يتعداه ليكون (العين الساهرة) التي تراقب عن كثب مسارات العلاقات الدبلوماسية، وتسلط الضوء على أي تجاوزات أو ممارسات قد تمس سيادة الوطن أو تهدد مصالحه العليا.
وانتقاد الكتاب لبعض السلوكيات في إطار العلاقات الدولية، لا ينبع من الرغبة في التشويش أو نشر الفوضى او البلبلة، بل هو في الحقيقة فعل وطني مسؤول، يهدف إلى تصحيح المسار ومعالجة الثغرات قبل أن تستفحل، فالسلطة الرابعة، كما يطلق عليها، تدرك جيداً أن الصمت على الأخطاء هو بداية التنازل عن الحقوق، وأن دق ناقوس الخطر في وقته أفضل من التأخر والندم.
والصحافة الحرة مرآة تعكس واقع العلاقات الدولية، وصوت الشعوب التي تدافع عن حقوقها، وتحذر من مخططات النيل من سيادتها وكرامتها.
وقد ارتبط اسم صقر الدبلوماسية السعودية الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- بالحكمة والحزم في آن واحد، فقد تمكن خلال مسيرته الطويلة كوزير للخارجية من ترسيخ مكانة المملكة كقوة إقليمية مؤثرة لا تقبل المساومة على ثوابتها، ولا التنازل عن حقوقها.
واتسم أسلوبه في إدارة سياستنا الخارجية بالحزم والوضوح عندما يتعلق الأمر بمقدراتنا ووطننا، وامننا الوطني، فلم يخف يوم رفضه القاطع لأي تدخل أجنبي في شؤوننا أو أي محاولة إملاء على المملكة أو التأثير على قراراتها، كانت له مواقف مشهورة جسدت هذا النهج، منها رده القوي على الضغوط الأمريكية خلال حرب الخليج الثانية، حيث أصر على خروج القوات الأجنبية من المنطقة بعد تحرير الكويت، ورفض بحزم أي وجود عسكري دائم لها على الأراضي العربية.
ولعل من أبرز مواقفه التي كشفت عن شخصيته القوية ووطنيته رده الشهير على صحفي أجنبي حاول الإساءة إلى المملكة خلال مؤتمر صحفي، حيث قال له بحزم :
_ إن كنت تريد أن تسيء إلى بلدي فأنا أستطيع أن أساعدك على حزم حقائبك لترحل.
هذه المواقف الشجاعة أكسبت سعود الفيصل احترام العالم أجمع، وأثبتت أن السعودية ليست بلد سهل، وتدافع بقوة عن مبادئها ومصالحها.
لم يكن سعود الفيصل سياسي محنك فحسب، بل كان قامة وطنية سامقة ورجل دولة من طراز رفيع، تميز بحكمته وبعد نظره وإخلاصه لوطنه ومليكه وأمته العربية والإسلامية، وترك رحيله فراغاً كبير على الساحة الدبلوماسية العربية والدولية، وعزاءنا ان مواقفه وتاريخه سيبقيان مصدر إلهام للأجيال القادمة.
فقد أطل علينا الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في ولايته السابقة بتصريح مستفز، كعادته، زاعم فيه أن بقاء السعودية مرهون بالدعم الأمريكي، وتمادى في غيه، مهدد بـ “زوالها” خلال أسبوعين في حال غياب هذا الدعم.
إن هذه التصريحات غير المسؤولة لا تمثل سوى نهج سياسة استعمارية قائمة على الغطرسة والمصالح الضيقة، وتجسد نظرة دونية لـ دول وشعوب لها تاريخ وحاضر مشرف. وإننا في المملكة، أبناء هذه الأرض الطاهرة التي تحتضن أقدس بقعتين عند المسلمين، نرفض بشكل قاطع تكرار هذه التصريحات المسيئة التي تمس بـ سيادتنا وكرامتنا مرة أخرى، فنحن أمة لها تاريخها الضارب في عمق التاريخ، ولن نسمح لترامب أو لغير ترامب بـ التطاول على رموزنا أو التشكيك في مقدراتنا.
إن علاقاتنا الدولية في المملكة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على الابتزاز أو الإملاءات، ونحن قادرون على حماية أرضنا ومكتسباتنا بـ أنفسنا، كما فعلنا في السابق، وكرامة وطننا ليست سلعة للمساومة، ولن نقبل بـ أي تهديد أو وعيد، وسنظل أوفياء لـ مبادئنا وقيمنا، سائرين بـ ثبات نحو تحقيق تطلعاتنا في التقدم والازدهار، والشراكة ﻭ التحالف لا تشتريان بالتهديد والوعيد والتطاول، وتصريحات ترامب المستفزة السابقة تصريحات مسيئة وفارغة ومردودة عليه، وتمثل صدى نهج سياسي عفا عليه الزمن، نهج يعول على فرض النفوذ بالقوة والتهديد ولغة الوعيد.
والمملكة، بـ تاريخها العريق وحاضرها المشرف، ليست بـ حاجة لـ شهادة من أحد على مكانتها ودورها المحوري على الصعيدين الإقليمي والدولي، فنحن أمة الإسلام، وخدم الحرمين الشريفين، ولا فخر، ونحمل على عاتقنا مسؤولية عظيمة تجاه العالم أجمع.
وعلاقاتنا الدولية قائمة مع جميع الدول على أسس متينة من الاحترام والتعاون المشترك، لا على الإملاءات أو سياسة لي الأذرع، ونحن في المملكة كشعب سعودي لن نقبل بـ أي مساس بـ سيادتنا أو تدخل في شؤوننا الداخلية، وكلمات ترامب السابقة لم تمثل بالنسبة لنا سوى فقاعات هواء فارغة سرعان ما تلاشت أمام صلابة موقفنا وثبات خطانا، فـ وطننا شامخ بـ، إذن الله، وسيبقى كذلك بـ فضل من الله ثم بـ حكمة قيادته وتلاحم شعبه، فإن عاد هذا المعتوه في ولايته القادمة المتوقعة لتصريحاته المستفزة فلن يسمع منا إلا ما يسؤه، فوطننا لا يقبل الإهانة، ولا ينحني لأحد.
كاتب رأي
ولسنا نرى الفقر عيب، وإنما العيب كل العيب أن نرى اللقمة أهم من الكرامة! كيف سنستسيغها، وكيف ستعبر إلى طريقها؟ إن كان ثمنها الكرامة . لله در المعنى ومقدمه .