كُتاب الرأي

مواقف من الميدان التربوي

د. سلطان محمد القنيدي

تعجُّ الذاكرة بالكثير من المواقف التي حدثت في الميدان التربوي من خلال العمل فيه، وتؤكِّد بجلاء أثر هذه المهنة العظيمة في الأجيال، وإسهامها الفاعل في بناء العقول بما يعود عليها بالنفع والفائدة، ويحقِّق الآمال والطموحات والتطلُّعات، ومن أبرز تلك المواقف التربويَّة:
(1)
من قبل أن أعمل في التعليم، كنتُ وما زلتُ حريصًا على ترك الأثر الطيِّب والإيجابي فيمن ألاقي، ممَّا جعل هذا الأمر يزداد أكثر بعد العمل في التعليم؛ لأنَّ التعامل مع الطلاب في مختلف شرائحهم يتطلَّب هذا.
وفي أول سنة عمليَّة لي في المدرسة، كان هناك مجموعة من الطلاب الذين يتفاوت مستوى الانضباط الصفِّي لديهم، فرأيت من الأفضل إشغالهم بما يفيدهم، وينمِّي مهاراتهم وقدراتهم، فاقترحتُ على مدير المدرسة آنذاك أن يخصِّص جهازًا حاسوبيًّا لهم، وبخاصَّة أنَّ في المدرسة أجهزة فائضة عن الحاجة غير مستخدمة، ويكون مكانه مرئيًّا له ومشاهدًا، بحيث يجعل منه وسيلة عقاب وتعليم في آن واحد من خلال العمل على بعض البرامج والتطبيقات التي تخدم المناهج الدراسيَّة؛ وذلك لتنمية المهارات الحاسوبيَّة لديهم، وصقلها بطريقة عمليَّة مفيدة تحت إشراف مدير المدرسة أو مَن ينوبه عنه.
وصادف هذا المقترح الاعتراض من بعض المعلمين؛ بحجَّة أنَّ الطلاب لا يدركون استخدام الحاسوب، وقد يتلفونه بالعبث به… إلى غير ذلك من الأعذار غير المقبولة، وأحيي شجاعة مدير المدرسة على قبول المقترح باقتناع، والبدء في تطبيقه من اليوم التالي، وحرصه الشديد على تفاعل كل طلاب المدرسة معه؛ حتى يستفيدوا.
وبعد فترة وجيزة لحظ معلم الحاسب الآلي، وهو يكمِّل في مدرستنا إضافة إلى مدرسته الرئيسة، بعض التطوُّر في مستوى الطلاب، ممَّا جعله يسأل عن سرِّ هذا التطوُّر، فوجد أنَّ هذا المقترح واقع يعيشه يوميًّا الطلاب في أروقة المدرسة، وأخبرني بأنَّه سينقل هذه التجربة الغنيَّة إلى مدرسته الأخرى، وكل مدرسة يعمل فيها.
وفي نهاية العام وجدتُ المعارضين للمقترح في بدايته، من المؤيِّدين بقوَّة إليه؛ لأنَّهم لمسوا استفادة الطلاب الملحوظة من استخدام الحاسب الآلي، واستغلال أوقاتهم بما يفيدهم في تحصيلهم الدراسي.
(2)
وفي بداية عام دراسي جديد حضر طالب في الفصل الذي أدرِّسه “ثالث متوسط”، ثم اختفى فجأة، وكان واضحًا عليه المعاناة الصعبة والظروف القاسية، فسألتُ الطلاب عنه، فقالوا: تحوَّل من انتظام إلى انتساب، فدعوتُ الله له بالتوفيق والسداد.
وعند حلول الاختبارات النهائية حضر ذلك الطالب؛ ليختبر مع طلاب الانتساب، ومن توفيق الله كنتُ الملاحظ على لجنة الانتساب، ولا يتدخل في عملي إلا مدير المدرسة أو الوكيل بوصفهما المسؤولَيْن عن مسار الاختبارات، وكل واحد من الزملاء المعلمين يلاحظ على لجنته، ومسؤوليَّته محصورة عليها، وفجأة جاء أحد المعلمين، وطرد هذا الطالب المنتسب من لجنة الاختبار دون أن يعود إلي بوصفي الملاحظ والمسؤول عن هذه اللجنة، فدعوتُ الطالب مباشرة ليعود إلي بعد أن همَّ بالخروج، وسألته عن الأمر، فقال: لا أعلم عن سبب طرده، وقد يكون هناك مواقف قديمة بينهما، لكنَّها لا تبرر أبدًا طرد الطالب بهذا الشكل، وحرمانه من حضور الاختبار، فقلتُ للطالب المنتسب: عُد إلى مكانك، وأكمل اختبارك ولا تبالي، وذهبتُ إلى المعلم الذي طرده، وقلتُ له معاتبًا: لا يحسن بك فعل هذا الأمر أمام زملائه الطلاب ودون أن تستأذن من ملاحظ اللجنة، وقال لي: هذا الطالب لا يستحق أن يختبر عندنا، فقلتُ له بوضوح: إنَّ دولتنا -أعزها الله- وضعت هذه المدرسة وغيرها، وفتحت أبوابها لجميع أبناء الوطن، وتكفَّلت مشكورة بها، وأقسمتُ له لو علم ولي الأمر عن فعلته هذه، سيحاسبه حسابًا عسيرًا، فرتعد خائفًا، وذهب يجرُّ أذيال الهزيمة والخذلان.
ولم أترك هذا الطالب المنتسب البتَّة؛ لأني توسَّمتُ فيه الطموح والهمَّة لو وجد الأبواب مشرعة أمامه، وبعد الاختبار أخذته بيدي إلى مدير المدرسة، وكنتُ غاضبًا على ما حصل لهذا الطالب، وحريصًا على إكماله المرحلة المتوسطة بأي طريقة كانت، فشاطرني مدير المدرسة هذا الاهتمام، وأعلن دعمه له ومتابعته، وجعلني ملاحظًا طوال أيام الاختبارات على لجنة الانتساب، وواعدني الطالب المنتسب أن يلتزم بالحضور لكل الاختبارات ولا يغيب، فأوفى بوعده، وتحقَّق بحمد لله النجاح، وإتمام المرحلة المتوسطة.
وقد جاء نقلي في ذلك العام من منطقة إلى منطقة أخرى، وذهبت بنا الأيام، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات، فإذا برقم غير مسجِّل لدي يهاتفني، واكتشفتُ أنَّه هذا الطالب المنتسب يسلِّم ويثني على ما فعلته معه، وما هو إلا واجب قد أديته بكل حرص وأمانة، والله من وراء القصد، وها هو الآن أحد جنود الوطن البواسل، نفخر ونعتزُّ به.
(3)
تعدُّ المرحلة الثانوية مرحلة خصبة للمواهب الطلابية، وبخاصَّة أنَّ فيها تتبلور توجُّهاتهم ومهاراتهم وإبداعاتهم، وعندما كنتُ أدرِّس طلاب هذه المرحلة، عملتُ فريقًا إبداعيًّا متعدِّد المجالات، وموعد انعقاد جلسات الفريق في حصة النشاط، فاكتشفتُ من خلاله مواهب متعددة في الرسم، والإنشاد، والشعر، والرواية، والقراءة، وجوانب أخرى لم أعلم عنها إلا وقتئذ، فحرصتُ على تنمية مواهبهم وإبداعاتهم على أوسع نطاق، فجعلتُ لهم مشاركات على مستوى المدرسة في الإذاعة الصباحية والفعاليات المتنوِّعة، ثم تواصلتُ مع الزملاء في قسم النشاط الطلابي، ولم يألوا جهدًا في دعمهم الكبير لهم، فجعلوا الشاعر يشارك في قصيدة في حفل اليوم الوطني أمام المحافظ، وكان شعوره غامرًا جدًّا. والمنشد جعلوه منشدًا ضمن الأوبريت المعد لهذه المناسبة الغالية، وتكرَّرت بعدئذ مشاركاته معهم. والرسَّام جعلوه يشارك في معارض فنية مختلفة. والقارئ جعلوه يشارك ضمن تصفيات مشروع تحدي القراءة العربي، وغيرهم الكثير من الطلاب.
وأصبحت مدرستنا الثانوية آنذاك منارة إبداعيَّة على مستوى إدارة التعليم، ويعوِّلون عليها كثيرًا في الفعاليات والبرامج والحفلات، وصال ذكرها وجال في أروقة التعليم، ومديرها صار مرتفع الهامة بإنجازات مدرسته المعيشة. وبعد ذلك انتقلتُ مشرفًا تربويًّا في إدارة التعليم، وقد شهدتُ بحمد الله تخرُّج هذه النخبة الطيِّبة من الطلاب المبدعين.
وذات يوم يفاجئني أحدهم بثنائه علي في لقاء مباشر على التلفاز، وهو الآن منشد عملاق، ويشار إليه بالبنان. وقد تكرَّرت هذه الإطراءات منه ومن غيره أكثر من مرة، ممَّا يجعلني أقول: إن المعلم الحقيقي هو الذي يترك الأثر الطيِّب في نفوس طلابه، وأنا على يقين أنَّ كل ما قمتُ به لا يستحق الثناء أبدًا، وإنَّما هذا واجبي تجاه طلابي الأعزاء.

كاتب رأى و مؤلف

 

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى