هويتنا على أرفف سماسرة التاريخ

سقطت بغداد في عام 2003 بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، فتأثر العراق وتأثرت منطقة الخليج، ﻭ المنطقة العربية بأسرها، وتعرضت العاصمة العراقية لعمليات نهب واسعة من أبنائها، شملت المتاحف والمواقع التاريخية، والبنوك.
والآثار العراقية تعتبر من أقدم الآثار في العالم، وتمثل تاريخًا يمتد لآلاف السنين، ومع سقوط النظام، تعرض المتحف الوطني العراقي لعمليات نهب كبيرة، وسُرقت منه آلاف القطع الأثرية التي لا تقدر قيمتها بثمن، ولم يؤثر هذا النهب فقط على التراث الثقافي للعراق، بل أدى أيضًا إلى فقدان الهوية الوطنية، ومئات الملايين من الدولارات.
وفقدان الآثار العراقية أثر بشكل كبير على الهوية الثقافية للعراق، فكثير من القطع المسروقة تمثل جزءًا من تاريخ العراق العظيم، وفقدانها يعني فقدان جزء من ذاكرة شعبها العريق.
و على طاري الآثار، كنت قرأت قصة كتبها أحد الكتاب العرب، لا اتذكر اسمه، ولا أين قرأتها، فقط اذكر منها أنه ذكر فيها أن دولته أوفدته لدورة تدريبية في النمسا لمدة أسبوعين، في نفس عام سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وكان المشرف على هذه الدورة دكتور نمساوي مسن يبلغ من العمر ٧٤ عامًا، من مدينة سالزبورغ، عاصر الحرب العالمية الثانية، وكان شاهدًا على احتلال النمسا من قبل قوات الحلفاء بعد هزيمة ألمانيا النازية التي تقاتل النمسا إلى جوارها، واختصارا للقصة، دعا ذلك الدكتور النمساوي طلابه لزيارة متحف التاريخ النمساوي في وسط فيينا.
وعند ذهابهم للمتحف، ذهل الطلاب مما رأوه من تاريخ الأباطرة، والأمراء، والملوك النمساويين، وما يحتويه المتحف من مقتنيات، ﻭ آثار لا تقدر بثمن.
وهنا، سأل أحد الطلاب الدكتور النمساوي المسن عما إذا كانت هذه الأشياء حقيقية أو مقلدة من الأصل؟
فاستغرب الدكتور من سؤاله، وقال له: ولماذا تسأل؟
فقال الطالب: لأني ملم بالتاريخ، وأعرف أن الحلفاء احتلوا فيينا، وأصابها من الدمار المتعمد ما أصاب برلين، وأن الحلفاء دمروا عمدًا متاحفها، ونهبوا المدينة.
فضحك الدكتور وقال له:
أنت على حق، عند دخول البريطانيين فيينا، دمروا ونهبوا كل شيء، ونالت فيينا عقوبة خسرتها الحرب مع ألمانيا.
ثم واصل حديثه، وعندما وصل لجهود سكان فيينا في حماية ثرواتهم، وتراثهم، وآثارهم، لم يستطع حبس دموعه فقال :
في الليلة التي علمنا فيها باقتراب موعد دخول البريطانيين إلى المدينة، هرع جميع السكان، كبارًا وصغارًا، إلى البنوك والمتاحف، وكل شخص أخذ ما استطاع من الذهب والأموال والتحف الأثرية، والوثائق المهمة، بما في ذلك جواهر الإمبراطور، وقطع نادرة له لا تقدر بثمن، قبل وصول القوات البريطانية، ﻭ أخفوها في منازلهم .
وبعد ان انتهت الحرب العالمية الثانية، ونالت النمسا استقلالها في عام 1955، بدأ الشعب النمساوي بإعادة إعمار وطنه، و كل فرد من سكانها أعاد ما أخذه إلى البنوك والمتاحف، والمؤسسات العامة، والخاصة، وتمكن السكان من إعادة بناء مؤسساتهم الثقافية والمالية دون أن تفقد النمسا أي جزء من تراثها، أو ثرواتها، او آثارها، مما ساعد الشعب النمساوي على استعادة هويته الوطنية، وإعادة إعمار بلاده بسرعة فائقة.
وقد عاشت النمسا في ظل الاحتلال الأجنبي بعد الحرب العالمية الثانية عقدًا من الزمن، والتحف والأموال، والآثار، كانت محفوظة بعناية في منازل سكانها، ولم يتم بيع أي منها، أو تهريبها إلى خارج النمسا، بل أُعيدت جميعها بالكامل إلى مؤسسات الدولة، والبنوك، والمتاحف، كما كانت قبل الاحتلال، ودون ان ينقص منها شيئا، رغم الظروف الصعبة التي مروا بها.
فهل أدركتم الفرق بين الشعوب التي تربت على حب الوطن والانتماء الحقيقي، وتلك التي ترى في آثارها، وبنوكها، وتراثها، مجرد غنائم تُنهب في أوقات الحروب والأزمات؟
الشعوب التي تُغرس فيها قيم الوطنية منذ الطفولة غرسا تكون حريصة على حماية تراثها، وهويتها في الحروب والأزمات، والمجتمعات التي تعتبر ممتلكاتها التاريخية غنائم، ووسائل للربح السريع، تفقد جزءًا كبيرًا من ثقافتها، وروحها، وانتمائها، وهويتها.
العراق العظيم الذي سرقت بنوكه ومتاحفه، وآثاره، ومؤسساته، ومعامله من بعض أبنائه الذين لا يحسبون على شعبه الأصيل، وهربوها للخارج ، وباعوها بـ (تراب الفلوس)، لا تتأمل منهم خيرًا حتى لو أصبحوا من أصحاب الملايين والمليارات، واستقبلوا بالورود، والبخور، والأحضان، فالذي ينهب، ويبيع تاريخه، وتراثه، وآثاره، على استعداد لبيع العدو سيادة وتراب بلاده، وحرية أهله، وكرامة شعبه، ودماء شهدائه، بثمن بخس، ومن يسرق آثار وطنه، ويبيعها لا يتردد في ارتكاب أبشع الأفعال، كأن يسرق قبر أمه، ويبع جثتها لطلاب التشريح.
فانعدام القيم والأخلاق في الحروب، يُظهر مدى الفجوة في الانتماء والولاء للوطن، وحب الوطن والحفاظ على آثاره وتراثه في السلم والحرب واجب مقدس، ويجب أن يكونا راسخين في نفوسنا منذ الصغر وإلا فإننا نعرض هويتنا وثقافتنا للخطر.
هل عرفتم الآن لمن ستؤول إليهم بلداننا الخليجية إذا نشبت الحروب في أي لحظة لأي سبب في ظل وجود من هم مستعدون لبيعها بأي ثمن؟
ستصبح ملكًا للحرامية، وقطاع الطرق، وضعفاء النفوس، وعشاق السلطة ﻭ المناصب، ولأولئك الذين يمرون بنقص حضاري مزمن ، ويعانون من موت الضمير، وسعادتهم في رؤية هويتنا على أرفف سماسرة التاريخ، مطروحة للبيع في مزاد علني رخيص، مُهانًا، مُهدرًا، مُستغلاً من قبل أيدي غريبة لا تعرف قيمتنا، ولا تُقدر تاريخنا، ولا أمجادنا، فنضيع، وتضيع هويتنا من الضياع والتشويه.
محمد الفريدي
الآثار الوطنية هي السجل الحضاري لكل بلد على هذا الكون لانها تعبر عن تاريخ هذا البلد او ذاك على مر الزمن والتاريخ ..
مقال جميل جداً للكاتب العملاق الاخ محمد الفريدي ينضح بالوطنية الكامنة في وجدانه..
وشعور جميل جداً من كاتبنا العملاق تجاه وطنه ولتعليم أبناءنا حب هذا الوطن وتراثة ..
الكاتب كل يوم يبهرنا بموضوع جديد ..
شكراً اخي ابو سلطان على هذا الحس الوطني الغير مستغرب من امثالكم في هذا البلد المعطاء ..
حفظ الله بلادنا وولاة أمرنا من كل سؤ ومكروه .
تقبل تحياتي .
سعادة المستشار أبو عبدالله
أشكرك على رسالتك الرائعة وكلماتك الطيبة حول مقالي، و يسعدني أن تلامس كتاباتي الحس الوطني الذي أحرص على ترجمته إلى افعال وكلمات.
إن الآثار الوطنية تمثل بالفعل جزءًا لا يتجزأ من هويتنا وتاريخنا، ومن واجبنا جميعًا تعزيز هذا المفهوم بين الأجيال القادمة، أشكرك مرة أخرى على دعمك واهتمامك ، وحفظ الله بلادنا وولاة أمرنا من كل مكروه، وتقبل تحياتي وتقديري سيدي.
اخوك / محمد الفريدي
👏👏👏👏
لافض فوك أستاذنا القدير💐
اشكرك استاذة ابتسام على ردك ، و لا فوك أستاذتنا الكريمة.
تحياتي
شكراًَ لجمال ماكتبت وسطرت.. مقالك قيم ومهم
نفع الله بعلمك وزادك نوراً أستاذ محمد.
الأستاذة والكاتبة المميزة/ زايدة علي حقوي
شكراً جزيلاً لكم على كلماتكم الجميلة، و يسعدني استاذتي أن المقال نال إعجابكم، وأتمنى أن أستمر في تقديم محتوى ينفع ويثري المجتمع، بارك الله فيكم وزادكم نوراً كذلك.
وتقبلي تحياتي.
اخوكم / أبو سلطان
ما شاء الله تبارك الرحمن
جميل ما نثرتم من عبير ينتشيه كل مُحب لوطنه
زادكم الله من فضله وعلمه
مقال تربوي رصين
لله دركم أستاذنا الكريم
أستاذي العزيز سلطان حلمي
أشكركم من كل قلبي على كلماتكم الرقيقة، والغير مستغربة من فنان مبدع مثلكم ، و دعمكم بالإشادة و المشاركة والتعليق تعني لي الكثير، ويسعدني أن ما قدمته قد نال إعجابكم ، وحبنا لوطننا هو أقل ما نقدمه لوطننا، بارك الله فيكم، وجزاكم الله عني خير الجزاء:
و دمتم بخير.
اخوكم / أبو سلطان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما شاء الله تبارك الله
شكرا شكرا لكم أبا سلطان
على ما سطّر قلمك الفيّاض
وإلى الأمام دائما وابدا…
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أستاذي الفاضل الدكتور سالم بن رزيق/ ابو عبدالرحمن
حفظكم الله ورعاكم، كلماتُكم الكريمة أستاذي تزيدني شرفًا وتدفعني لبذل المزيد.
شكرًا لكم على دعمكم الدائم وتشجيعكم، أسأل الله أن يجعل ما أكتب نافعًا وأن يوفقني وإياكم لما فيه الخير للجميع .
وتقبلوا فائق تحياتي.
اخوكم / أبو سلطان