شحاذ في مجلس الشورى

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت المدن الأوروبية تشهد تحولات كبيرة في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية، حيث ترك الدمار أكثر مبانيها ومكتباتها العامة، والخاصة، في حالة خراب تام، والكتب التي كانت تملأ رفوفها تحولت لأكوام ممزقة وأوراق متناثرة في كل مكان.
بعد ذلك ظهرت مجموعة جديدة من المتسولين، استغلت هذه الظروف بطريقة غير تقليدية، ولم تتوقف عند طلب المساعدة من المارة، بل وجدت فرصة لتحسين أوضاعها المعيشية من تلك الكتب الملقاة هنا، وهناك، فجمعتها، وقامت ببيعها في الشوارع بأسعار رخيصة للغاية، ولم يكن لديها معرفة كافية بقيمتها الأدبية والعلمية، بل كانت تري أنها مجرد وسيلة لكسب لقمة العيش فقط، ومع ذلك، ظهر جانب غير متوقع من وراء هذا النشاط، فقبل بيع هذه الكتب، كان هؤلاء المتسولين يقرؤونها لمعرفة محتواها، بهدف استخدامها لجذب المشترين، ويمشون في الأسواق، وينادون بعناوينها، ويستعرضون مقتطفات منها لجذب انتباه الناس، وزيادة مبيعاتهم.
مرت السنوات، وبدأ أهالي تلك المدن يلاحظون تغيرا غير عادي في سلوك المتسولين، وبدأ المثقفون يلاحظون أيضا أن المتسولين الذين كانوا في السابق رمزا للبؤس والفقر والتشرد، يشاركون في المناقشات العلمية والثقافية في الشوارع، ويستخدمون كلمات، ومصطلحات ومفاهيم لم تكن مألوفة في أحاديثهم اليومية من قبل، وكانت هذه التغييرات ذات طابع بارز لدرجة أن بعض المثقفين اتخذوا قرارًا بمتابعتها واستكشاف سر هذا التحول الثقافي الجديد.
وعندما بدؤوا باستقصاء الأمر، وجدوا أن المتسولين كانوا يقرؤون الكتب التي يبيعونها، ولم تكن قراءتهم مجرد قراءة سطحية، بل كانوا ينغمسون في مضمونها، ويستوعبون الأفكار والقصص والنظريات التي تحملها هذه الكتب، التي كانت في السابق حكرا على النخب المثقفة، وأصبحت مصدر إلهام ومعرفة لهؤلاء المتسولين، فتأثروا بالكتب لدرجة أنهم بدؤوا يتبادلون الأفكار فيما بينهم، ويناقشونها، ويستفيدون منها في تحسين حياتهم اليومية.
حتى إن أحد هؤلاء المتسولين المثقفين أصبح رمزا لهذا التحول في مجتمعه، ويتحدث بطلاقة في الفلسفة والأدب، ويقيم المناظرات في الشوارع مع أي شخص يرغب في مناظرته أو التحدث معه، وكان الناس يتجمعون حوله لسماع قصصه وحججه، وينظرون إليه كمعلم شعبي، ولم يكن هذا هو الوحيد، بل كان هناك كثير من المتسولين الذين تحولوا إلى مثقفين بفضل هذه الكتب التي كانوا يبيعونها بعد الحرب.
لقد تأثرت المدن الغربية إلى حد كبير بهذا التحول، وأصبحت نظرة الناس للمتسولين مختلفة عن ما كانت عليه من قبل الحرب، ولم يعدوا يُعَدُّون مجرد عبء على المجتمع، بل بدؤوا يُنظرون إليهم كأفراد مثقفين قادرين على المساهمة في الحوار الثقافي، وتحسين ظروفهم المعيشية، وأخذ الناس يقدمون لهم الدعم، ليس الدعم المادي فقط، بل وأيضاً الدعم المعنوي، والكتب والأدوات التعليمية.
أثار هذا التحول اهتمام الكثير من الباحثين، والأكاديميين الذين بدؤوا يدرسون هذه الظاهرة، فكتبوا المقالات والبحوث حول كيف يمكن للثقافة والمعرفة أن تكون وسيلة فعالة لتغير الظواهر السلبية.
وكانت قصص المتسولين في هذه المدن بمثابة دروس مجانية للعالم حول قوة المعرفة وتأثيرها في تغيير حياة الأفراد والمجتمعات، ورسالة قوية حول أهمية التعليم والمعرفة، حتى في أصعب الظروف والأوقات، ومصدر للأمل والتغيير، ومن خلال تلك الكتب التي كانوا يبيعونها، أصبح المتسولون مثقفين، واثبتوا للعالم أن الحصول على المعرفة لا يقتصر على النخبة والطبقات الأرستقراطية فحسب، وإنما هي حق للجميع.
واحدة من التطورات الملحوظة كانت رؤية المؤسسات التعليمية لأهمية هؤلاء المتسولين الذين تحوّلوا إلى أشخاص مثقفين، بدأت بعض الجامعات والمدارس في تنظيم جلسات حوارية وورش عمل يشارك فيها هؤلاء المتسولين بتجاربهم، حيث يقدمون رؤى جديدة مستمدة من قراءاتهم وتجاربهم الصعبة.
أدى هذا التفاعل بين النخب الأكاديمية والمتسولين المثقفين إلى إثراء الحوار الثقافي في المدن الغربية، حيث تُبُودِلت الأفكار والخبرات بطرق مبتكرة. وبدا بعض المتسولين المثقفين في تأليف كتبهم الخاصة، معتمدين على تجاربهم الشخصية وقراءاتهم العميقة، ولاقت كتبهم رواجا كبيرا بين القراء، حيث كانت تعبر عن قصص حقيقية وتجارب إنسانية ملهمة، وتُرْجِم بعضها إلى عدة لغات.
وظهرت بعض المبادرات المجتمعية لدعم هؤلاء الأفراد وتوفير فرص تعليمية لهم بالتعاون مع السلطات المحلية، حيث تأسست لهم مراكز خاصة للتعليم والتثقيف تمكنهم من متابعة تعليمهم وتوسيع معارفهم، وتلك المراكز لم تكن تقتصر على توفير التعليم والمعرفة فقط، بل قدمت أيضًا الدعم النفسي والاجتماعي والمادي لمساعدتهم على الاندماج على نحو أفضل في المجتمع.
وقد أطلقت الجمعيات الخيرية حملات لتشجيع القراءة بين فئات المجتمع المهمشة، وبمرور الوقت، بدأت النظرة العامة تجاه المتسولين تتغير جذرياً، لم يعُد يُنظَر إليهم كعالة على المجتمع، بل كأفراد لديهم القُدْرَة على التعلم والتطوُّر والمُسَاهَمَةِ في الثقافة والفكر، وهذه التغييرات في النظرة ساعدت في تحسين ظروف المعيشة لهؤلاء الأشخاص، حيث بدأ الناس بتقديم دعم أكثر اتساقًا وفعالية لهم، من خلال توفير فرص العمل في مجالات متنوعة وتوفير فرص التعليم.
الشيء اللافت للنظر هو أن بعض المتسولين المثقفين قد بدؤوا يتحولون إلى لاعبين نشطين في الساحة السياسية المحلية، فقد ترشح بعضهم للانتخابات المحلية، ونجحوا في الفوز بمقاعد في المجالس البلدية، وبوجودهم في هذه المناصب، أصبحت لهم إضافة جديدة ومهمة في صنع القرارات، حيث كانوا يمثلون الفئات المهمشة، ويعملون على تحسين ظروفهم المعيشية.
قصص المتسولين المثقفين في الغرب ليست مجرد حوادث عابرة، بل تمثل بداية لتحول اجتماعي وثقافي عميق، وتبرز قوة المعرفة وأهمية التعليم في تحويل حياة الأفراد والمجتمعات الغربية، فمن خلال التعلم والقراءة، تمكن هؤلاء المتسولون من تجاوز حدود الفقر والتهميش، وأصبحوا أعضاء فاعلين ومؤثرين في مجتمعاتهم، وقصصهم تشكل مصدر إلهام للجميع، وتذكرنا نحن أيضاً بأن الأمل والتغيير يمكن أن ينبعثا من المواقف غير المتوقعة، ومع ذلك، لو ترشح عندنا واحد من هؤلاء المتسولين المثقفين – على سبيل المثال- لمجلس الشورى، وهو كفو لهذا المكان، لتصدر اسمه صفحات صحفنا الأولى، وكتبنا بالبنط العريض: (يجلس على كراسي الشورى شحاذ تعيس!).
محمد الفريدي
مقال سردي رائع مع الكاتب المبدع أ. محمد الفريدي.. وفقكم الله لكل خير 🤲🏻
عنوان المقال: شحاذ في مجلس الشورى، بقلم الكاتب محمد علي الفريدي، يستحق المقال أن يحظى بدراسة تحليلية نقدية، لرصد حالة البؤس التي كانت عليها تلك الشريحة الفقيرة، لتنتقل انتقالاً جذرياً! إلى مجموعة مثقفة تشاطر النخب الثقافية الآراء الفكرية، في جانب فلسفي لافت، وفي مجتمعات عدة تجد هذه الطبقة تتميز بمعايير فلسفية إجتماعية، تنال رضا المجتمع والنخب الفكرية، كما تحظى برعاية المؤسسات الرسمية، شكرا لكاتب المقال على هذه النقلة الجذرية، من المحلية إلى العالمية، والتي تجد اهتماما ملحوظا من الأدباء والمؤلفين، في معارض الكتاب الدولية، وتنال جوائز عالمية، وأن دلَّ على شيء! فإنما يدل على بعد نظر كاتب المقال، وسعة ثقافته وانتقائه لمثل هذه الأطروحات الفكرية، وليسمح لي الكاتب أين هذا القلم السيَّال في زمن الصحافة الورقية؟ وهي في أوجه وقوة انتشارها، في ثمانييات القرن الميلادي الماضي.
أستاذي الأديب الكبير محمد حامد الجحدلي حفظه الله
تحية طيبة وبعد:
لقد غمرتني كلماتكم الطيبة وإشادتكم الكريمة بمقالي “شحاذ في مجلس الشورى” بسعادة وفخر لا حدود لهما، أن ينال قلمي المتواضع إعجاب قامة أدبية بحجمكم هو شرف كبير لي، ووسام أعتز به على الدوام.
لقد حاولت من خلال هذا المقال أن أطرح قضية شريحة من المجتمع تعاني البؤس والفقر، وكيف يمكن أن تتحول بفضل العزيمة والمعرفة و الاهتمام إلى مجموعة مثقفة قادرة على التأثير والمشاركة في الحوار الفكري ، وهو ما نسعى إليه جميعًا ، وأن نكون ان شاء الله جزءًا من هذا التغيير.
سؤالك الكريم حول غياب هذا القلم السيَّال في زمن الصحافة الورقية في الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي يثير في نفسي شعورًا بالحنين إلى تلك الأيام الجميلة، حيث كانت الصحافة الورقية في أوجها وقوتها ، ولكنني أؤمن أن لكل زمان أدواته ووسائله، وأن الأدب والفكر يجدان طريقهما دائمًا للوصول إلى القلوب والعقول، بغض النظر عن الوسيلة.
أستاذي الفاضل، إن إشادتكم ودعمكم لي هو حافز كبير لمواصلة الكتابة والسعي لنقل القضايا الفكرية والاجتماعية بطرق مبتكرة وجذابة، آمل أن أكون عند حسن ظنكم دائمًا، وأن أستمر في تقديم ما يليق بذائقتكم الأدبية الرفيعة.
أشكركم مرة أخرى على كلماتكم الرائعة، وأتطلع دائمًا إلى نصائحكم وتوجيهاتكم الأدبية القيمة.
مع أطيب تحياتي و تقديري .
محمد علي الفريدي
الله يسعدك يابو سلطان مقال عميق وذو مغزى جميل وكما قال الشاعر :
العلم يبني بيوتا لا عماد لها
والجهل يهدم بيت العز والشرف
ليس من المستحيل أن يصبح المتسول عالماً مبدعاً فأغلب المبدعين لم يحصلوا على شهادات علمية عالية وقد كتبت مقالاً في ذلك سأبعثه لكم .
القراءة القراءة القراءة سبيل الأمم للتطور والنهضة .
سعادة اللواء عبد الله سالم المالكي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أسعد الله أوقاتكم بكل خير، وأدام عليكم الصحة والعافية، لقد غمرتني كلماتكم الطيبة وإشادتكم بمقالي “شحاذ في مجلس الشورى” بسعادة وفخر لا حدود لهما، إن ينال قلمي المتواضع إعجاب قامة عظيمة مثل قامتكم هو شرف كبير لي، ووسام أعتز به.
ما أروع ما استشهدتم به من بيت الشعر:
العلم يبني بيوتا لا عماد لها
والجهل يهدم بيت العز والشرف
هذه الكلمات تلخص الكثير من المعاني التي حاولت إيصالها من خلال مقالي، فالتحول من حالة العوز إلى قمة الإبداع ليس بالشيء المستحيل، بل هو حقيقة شهدتها البشرية مرارا وتكرارا عبر التاريخ.
أوافقكم الرأي تماما على أن القراءة هي السبيل لتطور الأمم ونهضتها، وأنها المفتاح الذي يفتح الأبواب أمام العقول لتبدع وتبتكر، وكما ذكرت، فإن العديد من المبدعين لم يحصلوا على شهادات علمية عالية، لكنهم تمكنوا من تغيير العالم بأفكارهم وإبداعاتهم.
أترقب بشوق كبيرا لقراءة مقالكم الذي ذكرتم، وأنا على يقين بأنه سيكون إضافة قيمة تثري معرفتي وتلهمني المزيد من الأفكار.
شكرا لكم مرة أخرى على دعمكم وتشجيعكم، وتقبلوا فائق تحياتي واحترامي.
محمد علي الفريدي