خُوَّةُ الْكَابِ حَدَّهَا الْبَابُ

هذا المثل العامي الذي يردده بعض العسكريين في المملكة يحمل بين طياته الكثير من الدلالات حول طبيعة العلاقات الإنسانية وَتَقَلُّبَاتِهَا، خصوصا في بيئات العمل التي تتسم بالضغوط النفسية، والعملية، والمنافسة الشديدة بين الزملاء في المؤسسات العسكرية.
من هنا، يمكن استلهام رؤى عميقة عن العلاقات البشرية في مختلف أشكالها، سواء كانت في الجيش، أو في قطاعات الداخلية، أو في الإدارات المدنية، وكيف يمكن للمصالح أن تُشْكِلُ، أو تَفَكُّكُ الروابط الإِنْسَانِيَّةِ بين الناس.
في البداية، تجدر الإشارة إلى أن المؤسسات العسكرية بطبيعتها تقوم على الانضباط وَالتَّرَاتُبِيَّةِ الصارمة في الرتب والأقدمية، وفي مثل هذه البيئة، تصبح العلاقات الشخصية معقدة، ومحفوفة بالمخاطر، فالتعاون والتضامن الذي يجمع بين الضباط في ساحة العمل، يمكن أن يتغير بسرعة عندما تتقاطع المصالح الشخصية مع بعضها أو تتضارب.
وأهمية هذا المثل تأتي في إسقاطه على واقع العلاقات الإنسانية في المجتمع العربي، والمجتمع السعودي على وجه الخصوص، حيث تُعَدُّ الإخوة والصداقة قيما محورية في النسيج الاجتماعي، ومع ذلك، يشير هذا المثل إلى أن هذه الإخوة ليست دائمة بالضرورة، وأنها قد تنتهي عند حد معين، وهو ما يمثل الباب في هذا المثل. ويعكس فكرة أن العلاقات في بعض الأحيان وظيفية مرتبطة بسياق محدد، وعندما يتغير هذا السياق، تتغير معها هذه العلاقات أيضا.
هذا المثل يعد مرآة للواقع الذي يعيشه العسكريون في كل زمان ومكان، حيث تكون الولاءات والتحالفات بينهم مُتَقَلِّبَةٍ، والصداقات التي تبنى داخل جدران ثكناتهم العسكرية لا تصمد أمام اختبارات الزمن والمصالح المتضاربة، فالحياة العسكرية بحكم طبيعتها تتطلب درجة من الحذر في بناء العلاقات الشخصية، إذ يمكن للمنافسة على الترقيات والوصول إلى المناصب أن تَحَوَّلَ الأصدقاء إلى خصوم.
هذه التقلبات في العلاقات ليست حكرا على العاملين في المؤسسات العسكرية فقط، بل يمكن القول إن المثل (خُوَّةُ الْكَابِ حَدَّهَا الْبَابُ) يلقي الضوء على واقع معقد ينطبق على الكثير من العلاقات الإنسانية، خاصة أولئك الذين يجدون أنفسهم متشابكين في مؤسسات ذات بنية تحتية صارمة ومحكومة بالقوانين والأنظمة الرسمية كالمؤسسات العسكرية، ففي هذه البيئات، تبنى غالبا العلاقات والصداقات على أساس المصالح المشتركة، والظروف الراهنة، وتتلاشى بمجرد أن تتغير هذه الظروف، أو تتضارب المصالح المشتركة.
ومع أن الحياة العسكرية تتسم بالرفقة والتلاحم والتضامن والزمالة القوية بين الضباط، بسبب المشاركة في التدريبات الشاقة، والحياة المهنية الصعبة، أدى هذا إلى تكوين روابط قوية تبدو أكثر قوة وصلابة من الصلات العائلية نفسها في بعض الأحيان. ومع ذلك، فإن هذه العلاقات ليست ثابتة بطبيعتها، فهي علاقات هشة قابلة للكسر عندما تتعارض المصالح مع بعصها البعض في أي وقت.
فقد كشف واقعنا العملي والإنساني عن وجود تناقضات كثيرة في هذه العلاقات، فالضباط الذين كانوا مثلا يقفون معًا في الخطوط الأمامية، ويتشاركون الضحكات والظروف الصعبة، فجأة يصبحون خصومًا عندما يبدأ التنافس على المكافآت والترقيات والمناصب، أو فور عودتهم إلى حياتهم الطبيعية بعد تقاعدهم، أو عندما يبدأ بعضهم بالشعور بالضغوط الناجمة عن قسوة الحياة، أو عند عدم سؤال من كانوا يبحثون عنهم بعد تَرَجُّلُهُمْ من صهوة كراسيهم ومناصبهم التي كانوا فيها يعتقدون أنهم مُخَلِّدُونَ، فمتى نرتقي ضباطا وأفرادا ومدنيين ومواطنين بعلاقاتنا الإنسانية؟!
محمد الفريدي
اشكركم اخي سعادة الدكتور سالم بن رزيق على إعجابكم بالمقال و ما لدينا قليل من كثيركم بارك الله فيكم و نفعنا بعلمكم .
تحياتي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما شاء الله تبارك الله
اخي الكريم أبا سلطان
مقال جميل ورائع
وتوصيف عميق من صاحب تجربة عميقة
شكرا شكرا لكم على مقالكم المميز
وإلى الأمام دائما وابدا…