دوامة الثراء والحرمان

شهدت المملكة العربية السعودية تحولات اجتماعية واقتصادية هائلة خلال العقود الماضية، فمن مجتمع يتسم بالتجانس النِّسْبِيُّ، أصبحنا أمام واقع يتسع فيه التفاوت بين فئات المجتمع بصورة ملحوظة، ولعل أبرز تجليات هذا التفاوت يتمثل في الفجوة الكبيرة بين فئة قليلة تمكنت من تكديس الثروات الهائلة في حساباتها البنكية، وفئة واسعة النطاق تكافح من أجل توفير احتياجاتها الأساسية، وتأمين لقمة عيشها.
أتذكر إن أحد جيراننا، كان يعمل موظفا بسيطا في إحدى الإدارات الحكومية بالمدينة المنورة، ويعيش حياة متواضعة مع أسرته، ويكافح من أجل توفير مستلزمات الحياة الكريمة له ولأبنائه وأسرته، وفي أحد الأيام، فوجئت بأنه أصبح من أصحاب الثراء الفاحش، يمتلك فَلَلًا فخمة، وسيارات فارهة، وينفق أموالا طائلة دون حساب، وعندما سألته عن سر ثرائه المفاجئ، أخبرني بأنه حصل على عقد مشروع ضخم مع إحدى الجهات الحكومية من الباطن، وأن هذا العقد غير حياته بصورة جذرية.
هذه القصة تجسد واقع التفاوت الاقتصادي في المملكة، حيث تَتِيحُ بعض الظروف لأفراد مُحَدَّدِينَ فرصة تحقيق الثراء السريع والفاحش، في حين تَبْقَى الشرائح الواسعة من المجتمع خارج دائرة الاستفادة من هذه الفرص، وقد أسهم بتعميق هذه الفجوة في تلك الفترة عدة عوامل، منها ضعف آليات الرقابة، ومكافحة الفساد، وغياب العدالة في توزيع الثروات والفرص، وتركيز الاستثمارات في مناطق محدودة دون الاهتمام بتنمية المناطق الأكثر فقرا.
إن الخطر الحقيقي لا يتمثل فقط في التفاوت المادي، بل يتجاوزه إلى التداعيات الاجتماعية والنفسية لهذا التفاوت، فمن جهة، يُولَدُ هذا التفاوت شعورا بالظلم والإحباط لدى الفئات المهمشة، مما قد يدفعها إلى التشكيك في العدالة الاجتماعية، والبحث عن حلول أخري غير نظامية، ومن جهة أخرى، قد يؤدي إلى تراجع قيم العمل والكفاءة والنزاهة، وتصبح الثروة بغض النظر عن مصدرها هي المقياس الوحيد للنجاح والتفوق.
ولكي نواجه هذه التحديات، يتعين علينا العمل على عدة محاور، تعزيز مبادئ العدالة الاجتماعية، من خلال إعادة النظر في نظام توزيع الثروات، وتوفير شبكة أمان اجتماعي فعالة تحمي الفئات الأكثر احتياجاً، ومكافحة الفساد بكافة أشكاله، فهو يعد من أهم العوامل المفاقمة للتفاوت الاجتماعي، وتقويض مؤسسات الدولة، والاستثمار في التعليم والتدريب لتمكين جميع أبناء المجتمع من اكتساب المهارات اللازمة للمنافسة في سوق العمل، والمساهمة في التنمية، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لخلق فرص عمل جديدة وتحفيز النمو الاقتصادي على نحو متوازن، ويشمل جميع المناطق، وتعزيز قيم التكافل، والتعاون الاجتماعي، من خلال برامج توعوية هادفة تبرز أهمية المسؤولية المجتمعية، والتضامن بين أبناء الوطن الواحد.
إن بناء مجتمع سعودي متماسك وعادل ونظيف، يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، من حكومة، ومؤسسات، وأفراد، للعمل معا من أجل سد الفجوة الاجتماعية، وتحقيق التنمية المستدامة للجميع، وتجاهل هذه القضية يشبه السير على حافة الهاوية، فالفجوة الاقتصادية المتزايدة تُهَدَّدُ النسيج الاجتماعي، وَتُنْذِرُ بآثار وخيمة على الاستقرار والأمن، فالمجتمعات التي تعاني تفاوت حاد في توزيع الثروات تصبح أكثر عرضة للصراعات الاجتماعية، والاضطرابات الأمنية.
ولعل التاريخ يحمل في طياته كثير من الدروس حول أخطار الفجوة الاقتصادية وتداعياتها على المجتمعات، فقد شهدت الكثير من الدول ثورات وانقلابات نَتَجَتْ من تراكم الغضب والسخط لدى الفئات المهمشة التي شعرت بالظلم والتهميش، ولذلك، فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع، حكومة، ومواطنين، ونخب فكرية، وإعلامية، للعمل معا من أجل بناء مجتمع سعودي متوازن وعادل وسليم، تَتَاحُ فيه الفرص للجميع، وَيُكَافَأُ فيه العمل والإنتاج والابتكار، وَيَعْلِي من قيم التكافل والتعاون، وَيُرْسَخُ مبادئ المواطنة الْحِقَّةُ التي تُعَلِّي من شأن الوطن، وتضع مصلحته فوق كل اعتبار.
إن بناء مثل هذا المجتمع ليس بالأمر السهل، ولكنه كذلك ليس بالأمر المستحيل، فقط يتطلب منا إرادة صادقة وَتَخْطِيطُ سَلِيمٍ، وتنفيذا فعالا للبرامج الحكومية، والمبادرات التي تعالج أسباب الفجوة الاقتصادية، وتخفف من آثارها السلبية، وتغيير بعض القناعات والمفاهيم التي ترسخ للتفاوت، وَتَسُوغُ الظلم الاجتماعي.
والمملكة العربية السعودية ولله الحمد والمنة تمتلك من المقومات والإمكانات ما يؤهلها للتغلب على هذه التحديات، وبناء مستقبل أفضل لجميع أبنائها، ولكن ذلك مرهون بمدى وَعَيْنًا بخطورة هذه القضية، واستعدادنا للتعاون معها في القضاء عليها.
محمد الفريدي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحسنتم أحسنتم
يا أبا سلطان…
وإلى الأمام دائما وابدا…