أين مسرحنا عن خيال الظِل؟!

أين مسرحنا عن خيال الظِل؟!
يُعرف مسرح الظل أيضًا بـ خيال الظل أو شخوص الخيال أو ستار الظل، ويُعدّ أحد أقدم أشكال الفنون المسرحية في العالم. هو فنّ شعبي يعتمد على استخدام الضوء والظل لخلق تجربة بصرية سردية فريدة، تُحرَّك فيه دمى مصنوعة من الجلود المجففة ذات الألوان المتباينة بواسطة عصيّ خلف ستار من القماش الأبيض المضاء. يشاهد الجمهور الظلال المتحركة وهي تتفاعل مع الموسيقى والسرد والحركة في مشهد يمزج بين الفن والحلم.
نشأ هذا الفن في الهند وإندونيسيا قبل أن ينتقل إلى الصين والشرق الأوسط، حيث أبدع فيه المسلمون والعرب. يشير الباحث ميلاد أزارم إلى أن «أداء الظل كان موجودًا في إيران في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر، قبل الغزو المغولي»، وهو ما يوضح قدم هذا الفن وأهميته الثقافية في نقل القصص والحكايات الشعبية.
في العالم العربي، كان محمد بن دانيال من أبرز من ساهم في تطوير مسرح الظل، حتى وصفه الباحث مارفن كارلسون بأنه «أرستوفانيس العرب»، نظرًا لأسلوبه الساخر والناقد للمجتمع. فقد كانت عروضه مزيجًا من الترفيه والتعليم، تعبّر عن قضايا اجتماعية وسياسية بطرق رمزية راقية تجعل من الظلال وسيلة للتفكير والتعبير.
أما في أوروبا، فقد لمع اسم الفنان الفرنسي فرانسوا دومينيك سيرافين، الذي قدّم عروضه في باريس عام 1784، ونالت إعجاب النخبة، حتى أن الملكة ماري أنطوانيت حضرت أحد عروضه. وقد بيّن هذا الانتشار كيف يمكن لفنّ قديم أن يتجدّد في بيئات وثقافات مختلفة، محتفظًا بروحه رغم تغيّر الأزمان.
ولا يزال مسرح الظل حتى اليوم يحتفظ بجاذبيته وسحره، إذ يُستخدم في العروض الفنية والمهرجانات العالمية، ويُدمج أحيانًا مع التكنولوجيا الحديثة كالإسقاطات الضوئية والمؤثرات الرقمية، مما يجعله فنًّا متجدّدًا يتكيّف مع العصر ويحافظ على طابعه التراثي في الوقت نفسه. وتشير الدراسات الحديثة إلى أنّ مسرح الظل يمتلك قدرة فريدة على الجمع بين التعليم والترفيه، ونقل التراث الثقافي بأسلوب مشوّق وجمالي.
إنّ مسرح الظل ليس مجرد تسلية للأطفال، بل هو منظومة ثقافية وفنية متكاملة تحمل بين طياتها التاريخ والتراث والإبداع الإنساني. فهو يذكّرنا بأن الضوء والظل، رغم تناقضهما الظاهر، يمكن أن يلتقيا ليصنعا فنًّا خالدًا يتحدث بلغة لا تعرف الزمان.
وتوجد أربعة أنواع رئيسية من عروض مسرح الظل: منها ما يستخدم الممثلون فيه أجسادهم كظلال، ومنها ما تُستخدم فيه الدمى التي تُحرَّك في النهار أو خلف الشاشات المضيئة، إضافة إلى المشاهدة المكانية ومشاهدة الظل من جانبي المسرح، مما يمنح كل عرض طابعًا خاصًا ومتفردًا
إن إدخال مسرح خيال الظل في مدارسنا السعودية يمثل خطوة تربوية وثقافية تتناغم مع رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تعزيز الهوية الوطنية، والإبداع الفني، وتنمية القدرات الابتكارية للطلاب. فهذا الفن التراثي العريق يُعد وسيلة تعليمية فاعلة تجمع بين التعلم والمتعة، وتتيح للطلاب التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم من خلال الضوء والظل والحركة، مما ينمّي فيهم الخيال، والتفكير الرمزي، والقدرة على التواصل الفني والجمالي.
إن توظيف مسرح خيال الظل في العملية التعليمية يسهم في تنمية مهارات اللغة العربية من خلال كتابة الحوارات وتمثيل القصص، كما يعزز قيم العمل الجماعي والتعاون عبر مشاركة الطلاب في تصميم الدمى وتحريكها وتنسيق العروض. ومن الجانب الثقافي، فإنه يربط الأجيال الناشئة بجذور الفن العربي والإسلامي، ويغرس فيهم الاعتزاز بالتراث المحلي والإنساني.
كما يتقاطع هذا التوجه مع أحد محاور الرؤية، وهو الارتقاء بجودة الحياة، حيث يُعد المسرح أحد مسارات الإثراء الثقافي والفني في المجتمع التعليمي. ويمكن لمؤسسات التعليم إدماج هذا الفن ضمن الأنشطة الطلابية والبرامج اللاصفية، بما يخلق بيئة تعليمية محفّزة للإبداع، ويكشف عن مواهب فنية جديدة في مجالات المسرح والإخراج والتمثيل والفنون البصرية.
إن إحياء مسرح خيال الظل في مدارسنا ليس مجرد إحياء لتراثٍ قديم، بل هو استثمار تربوي وثقافي مستقبلي يسهم في صناعة جيلٍ يوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويستشرف المستقبل بعينٍ تتغذى من النور والظل، تمامًا كما يفعل هذا الفن البديع الذي يعكس جوهر الإنسان الباحث عن الضوء في أعماق ذاته
بقلم / أماني الزيدان
كاتبة راي ومسرحيات روائية



