آفاق في عين العالم

كيف غيرني المرض ؟!

 

آفاق في عين العالم

كيف غيرني المرض ؟!

وليد قادري

يتدافع الناس بضراوة على الدخول إلى حصن يأويهم من غارات جوية، أحدهم ضعيف البنية وهزيل كطارد الغربان، يدفعونه للخلف بلا هوادة حتى يجد نفسه خارج البوابة التي تُقفل تلقائياً، فيبحث عن شجرة يحتمي بها بينما الغارات تدمر الحصن ومن فيه عن بكرة أبيهم وتعود إلى قواعدها محققة هدفها ، فيراقب عودتها ويتساءل: ربما لو كان بالداخل للقي نحبه معهم، ربما أن هزاله وضعفه كانتا تذكرة له لحياة جديدة، يسعى فيها لتقوية ذاته ومساعدة غيره ويحرص على نزع الأنانية من قلوبهم..

نحن في الحياة كذلك..

تمنعنا الظروف المحيطة بنا عن تحقيق ما نرجوه، فنيأس ونحنق ولا ندري أن في ذلك خير لنا لم نعلمه..

قبل مرضي كنت شخصاً مختلفاً، عنيداً للغاية، عصبي المزاج، متقلب الرأي، قراءاتي صنعت مني مثقفاً خاوياً بلا قيم، فتتحكم بي الأهواء والتيارات وأسعى لإرضاء كل من يتسلق على عاتقي لينجح، وتحاصرني الشكوك والاتهامات والحسد من كل مكان..

مرضت واعتقدت أن العالم انتهى بالنسبة لي، كنت أقضي يومي بالقراءة والمشاهدة من باب تزجية الوقت لا أكثر، اعتقدت أنني سأنعزل كقط أجرب تحت حاوية ماء في فناء أحدهم، وحيداً أنتظر الموت، ولكن..

لقد غير المرض فيّ أشياء كثيرة، وكأن غشاءً على عيني قد نزع، صرت أكثر صبراً وحلماً وتحملاً، وأكثر ميلاً لتجربة الأشياء الجديدة، معظم أحلامي حققتها بعد فترة الزراعة، اكتشفت أنني قادرٌ على الكتابة، على التدريب والتخطيط، تعاظمت الرغبة في السلام والهدوء، والاهتمام بأناقة اللباس والحديث، ومساعدة الآخرين بلا تحفظ، لم تعد الأضواء تستهويني، لم تعد المناصب طموحاً أسعى إليه، أعمل من خلف الستار، مجدي وسعادتي في قلبي، وسعيت للصداقات الثابتة الجميلة بعيداً عن صداقات المصالح..

تبقت لدي عيوب كثيرة، فقد أنفجر في لحظة وأعود لمراجعة ذاتي، حساسيتي ارتفعت، دائرة عزلتي اتسعت، ولكنني أسعى للتخلص منها بفضل اتساع دائرة إدراكي، فالاقتراب من الموت يوسع مدارككم فتأكدوا من ذلك..

حتى عندما شخصت ذاتي بالاكتئاب، قاومت وانتصرت عليه لأن عقلي أتقن لعبة الصبر والمقاومة، لم يعد ذلك الأرنب الخائف من تربص الثعالب والنسور، بل عنقاء تُخشى ولا تهاب الموت فستعود حتماً من الرماد..

لقد تحولت قناعاتي لأتأمل أكثر، لأفكر في المستقبل، في أبنائي، في الطريق، نهاية الرحلة، ماذا بعد ذلك ؟! لماذا نحن هنا ؟! لماذا يستجيب لنا الكون وكأن هناك رابطاً خفياً يجمعنا به ؟!

ربما لو لم يصبني المرض في فترة مبكرة من شبابي لكنت شخصاً مختلفاً، ربما أفضل ربما أسوأ، من يدري، لكن الأكيد أن التجربة بعينها خلقت مني روحاً أرحب تواقة إلى المزيد..

تجربتي كانت مع المرض، غيري مع السجن، اليُتم، الفشل، النبذ، التهجير، الحرب، الاكتئاب، التنمر، الخوف المرضي..

لا تستهن بأثر التجارب عليك
فهي نقاط تحول
تصقلك
وتحول احتراقك إلى نور دائم
وستشع يوماً كالألماس
كمنارة
كنجمة..

 

كاتب رأي

وليد قادري

كاتب رأي وقاص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى